كما كان مُتوقّعًا، إنتهت إجتماعات "آستانة" ببيان يُذكّر بالقرارات الدَوليّة السابقة بشأن سوريا من دون أيّ صفة تنفيذيّة مُلزمة، خاصة وأنّ طرفي النزاع لم يُوقّعا على البيان الختامي. لكنّ الأكيد أنّ مُفاوضات "آستانة" تُمهّد الطريق لجولة تالية من المفاوضات في جنيف في الثامن من شباط المُقبل برعاية الأمم المُتحدة، في ظلّ دعوة طرفي النزاع إلى الحوار بشكل مباشر، وليس عبر طرف ثالث كما حصل في العاصمة الكازاخستانيّة. لكنّ إجتماعات "آستانة" عكست تغييرات مُهمّة على مُستوى الحرب السوريّة التي تُنهي عامها السادس في آذار المقبل. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: جرى عقد هذه المفاوضات من دون أيّ ثقل سياسي لكل من الولايات المتحدة الأميركية أو الدول العربيّة، الأمر الذي إنعكس خللاً في توازنات الدول الراعية، خاصة وأنّ كل من روسيا وإيران يُمثلان طرفًا منحازًا إلى جانب النظام السوري، ويُقاتل بشكل مباشر على الأرض، ولوّ بشكل جزئي.

ثانيًا: إستحوذت كل من روسيا وإيران وتركيا على دور محوري في هذه المفاوضات، علمًا أنّ الدول الثلاث المذكورة ستتولّى مُراقبة وقف النار في سوريا المُستمرّ بشكل مُتقطّع منذ 30 كانون الأوّل الماضي، وذلك عبر آلية تنفيذية يجري تحضيرها ميدانيًا.

ثالثًا: الخلل في التوازنات إنعكس تحفّظًا من قبل رئيس وفد المُعارضة محمد علوش على البيان الختامي، نتيجة رفض تمتّع إيران بأيّ دور مُستقبلي في سوريا، وإمتعاضًا من قبل مُمثّلي المُعارضة السوريّة عُمومًا إزاء ضعف الدور التركي في هذه المفاوضات، بينما كان رئيس وفد النظام السوري بشار الجعفري يصف المحادثات بالناجحة ويُبدي رضاه على نتائجها.

رابعًا: الخلل في التوازنات أدّى إلى تصنيف "جبهة النصرة" - كما "داعش" بطبيعة الحال، في خانة التنظيمات الإرهابيّة التي سيستمرّ القتال ضُدّها، علمًا أنّ النظام السوري وداعميه يُعمّمون صفة الإرهاب على العديد من التنظيمات التي إنشقّت عن "جبهة النصرة" أو إنبثقت منها وكانت تحظى حتى الأمس القريب بغطاء سياسي من بعض الدُول العربيّة، ما يعني أنّ الإستثناء سينطبق على عدد قليل من الفصائل المُصنّفة "مُعتدلة"، وتلك المدعومة من تركيا.

لكنّ وعلى الرغم من "نقاط الخلل" المُتعدّدة التي تصبّ في صالح النظام السوري، فإنّ "المُعارضة" التي أعلنت تحفّظها علنًا، راضية سرًّا عمّا حصل، لأنّها بحاجة ماسة إلى تثبيت وقف النار بأيّ ثمن، لإستعادة توازنها الميداني بعد سلسلة من الضربات والخسائر القاسية التي تعرّضت لها، وكذلك بهدف تمهيد الأجواء لوصول المُساعدات الإنسانيّة. كما أنّها ترغب بتمرير هذه المرحلة بأقلّ خسائر مُمكنة، آملة أن تحصل في المُستقبل تطوّرات سياسيّة إقليميّة ودَوليّة قد تُخفّف من قُدرة كل من روسيا وإيران على التأثير في الوضع السوري. وتُعوّل المُعارضة السوريّة أيضًا على تجدّد الخلاف الأميركي-الإيراني بعد تسلّم إدارة الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب، الأمر الذي من شأنه أن يحدّ من الإنفلاش الإيراني في الشرق الأوسط ككل، حتى لوّ تقاربت كل من واشنطن وموسكو على مُستوى مُحاربة تنظيم "داعش".

وبالنسبة إلى التوقعات بشأن الوضع المَيداني في سوريا في الأسابيع والأشهر القليلة المُقبلة، فإنّ الماضي القريب شكّل نموذجًا لما سيكون الحال عليه في المُستقبل، لا سيّما لجهة بقاء الوضع حائرًا بين الهدوء الجزئي والمُتقطّع، والمعارك المحصورة في مواقع جغرافية مُحدّدة. ومن المُتوقّع أن تتصاعد الهجمات على مواقع تنظيم "داعش" في الفترة المقبلة، من قبَل أكثر من جهة، في ظلّ تسابق على قضم مناطق سيطرته، من جانب كل من الجيش السوري وحلفائه من جهة، وبعض التنظيمات المُعارضة من جهة أخرى، في ظل سعي تركيا المُستمرّ لتوسيع منطقة نفوذها الحُدوديّة. إشارة إلى أنّ أنقره تواصل مُقايضة دعمها اللوجستي السابق لكثير من فصائل المُعارضة السورية، بمكاسب ميدانية وسياسيّة وإقتصادية مختلفة، تُعطي الأولويّة لمصالحها الإستراتيجيّة، الأمر الذي سمح بإعادة تحسين علاقتها مع موسكو، وجعلها مُتوتّرة مع بعض أطراف "المُعارضة" ومع قوى خارجيّة عدّة.

في الخلاصة، الحرب السورية لم تنته، وموعد السلام لم يحن بعد! لكنّ الأكيد أنّ الفترة الحاليّة هي إنتقاليّة وتحمل أكثر من فرصة للتهدئة، لكن من دون أن يعني ذلك إسقاط إمكان عودة معارك الحسم في الأشهر المُقبلة، في حال فشلت التدخّلات السياسيّة الإقليميّة والدَوليّة في إيجاد أرضيّة يُمكن البناء عليها لفرض التسوية السياسيّة التي ستُعطي-في حال حُصولها، الأولويّة لمصالح عشرات الدول، على مصلحة الشعب السوري الذي لا قُدرة له سوى إنتظار ما سيُقّرّره المُتصارعون على أرضه!