حين وُصِف العماد ميشال عون بـ"الرئيس القوي"، توقع كثيرون أن يكون نهجه مشابهاً للذين سبقوه إلى ​قصر بعبدا​، فيعتمد الوسطية وربما الرمادية في مقاربة مختلف القضايا، ولا سيما الخلافية منها، باعتبار أنّ قوته ستصطدم بضعف الصلاحيات الممنوحة له بموجب اتفاق الطائف، الذي وضع "السلطة" كلّها بيد الحكومة ورئيسها.

ومع رفع "الجنرال" لشعار "بيّ الكلّ"، اعتقد هؤلاء أنّ توقعاتهم بدأت تتحوّل لحقيقة، إلى أن أتت "صدمة" تلويح الرجل بالفراغ النيابي حتى لا ينكث بالتعهدات التي أطلقها بعيد انتخابه رئيسًا للجمهورية، "صدمة"، وإن وصفها البعض بالإيجابية، لم توحِ إلا أنّ الرجل ينطلق فيها من "موقع قوة" لطالما غُيّبت عن قصر بعبدا...

امتعاضٌ وأكثر...

في المبدأ، لا يفترض أن يكون الكلام الذي أدلى به رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، لجهة تفضيله الفراغ على التمديد، مفاجئاً لأحد، وهو الذي لطالما ناضل، منذ كان رئيسًا لـ"التيار الوطني الحر"، ضدّ التمديد للمجلس النيابي، الأمر الذي أوقعه سابقًا في "أزمة ثقة" مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وكاد يهدّد انتخابه رئيسًا للجمهورية.

وفي السياق عينه، فإنّ رفض الرئيس عون للقيام بأيّ خطوةٍ يتطلبها إجراء الانتخابات وفق ​قانون الستين​ ينسجم أيضًا مع إصراره على وجوب إقرار قانون انتخاب جديد يفرز سلطة جديدة يمكن أن تشكّل انطلاقة واقعية وحقيقية للعهد، وهو ما كان حاسمًا في الإشارة إليه في خطاب القسم، من باب إدراكه بأنّ تكريس القانون النافذ لن يشكّل سوى انتكاسة قوية بل مدوية للعهد، تؤدي إلى إجهاضه في مهده.

لكن، ورغم "مبدئية" موقف عون، الذي رحّب به كثيرون بوصفه "محفّزاً" للمضيّ في إنتاج قانون انتخابي جديد، وعدم البناء على السير بالقانون الحالي في ربع الساعة الأخير، إلا أنّه أدّى في المقابل إلى "امتعاض" واضح من قبل العديد من الأفرقاء، ولا سيما "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي". وإذا كان الأخير عبّر عن انزعاجه من دون تردّد بوصفه التخيير بين النسبية والفراغ "غير منطقي"، وهو الذي بات موقفه المؤيد لقانون الستين غير خافٍ على أحد، فإنّ "المستقبل" كذلك الأمر، وإن حاول ترطيب الأجواء والتخفيف من وقع كلام عون في الجلسة وبعدها، عبر إظهاره وكأنّه "مناورة" لا أكثر ولا أقلّ، إلا أنّه لم يخفِ في الكواليس والغرف الضيّقة قلقه الكبير ممّا يمكن أن يقود البلاد إليه.

وفي حين يخشى جنبلاط من أيّ قانون جديد لا يشبه قانون الستين يمكن أن يهدّد "زعامته" في الساحة الدرزية، ويجاريه "المستقبل" في ذلك، وهو الذي يتوجّس من محاولاتٍ لإظهاره لاعبًا بين مجموعة لاعبين على الساحة السنية، يبقى أنّ الخشية الأكبر التي برزت لدى "المستقبل" تكمن في حديث عون الصريح عن الفراغ، بعد تلويح "التيار الوطني الحر" ومعه العديد من حلفائه بخطواتٍ تصعيديةٍ، وكأنّ رئيس الجمهورية لا يمانع تكرار تجربة رئاسة الجمهورية في سائر المؤسسات، حيث علّق الرئاسة "رهينة" لانتخابه طيلة سنتين ونصف، معتقدًا أنّ باستطاعته فعل الأمر نفسه في ما يتعلق ب​قانون الانتخاب​، متجاهلاً "الخطورة الفائقة" التي يمكن أن تنجم عن تعطيل البرلمان.

السرّ في مكانٍ آخر...

قد تكون الخشية التي تولّدت لدى البعض من مواقف رئيس الجمهورية مرتبطة فعلاً بقانون الانتخاب، كون "مصالح" هذا البعض قد لا تنسجم مع الرغبة بتغيير القانون النافذ، ولو جاهروا بخلاف ذلك طيلة أشهرٍ سابقة، إلا أنّ التمعّن أكثر في المواقف يُظهر أن "الامتعاض" هو أبعد من قانون الانتخاب، بل من كلّ الاستحقاقات الآنية وما يحيط بها.

هنا، يمكن القول أنّ عون، وبمعزلٍ عن حقيقة نواياه، المعلَن منها والمستتر، كسر عرفاً طويلاً قائمًا على "رضوخ" رئيس الجمهورية وقبوله بالأمر الواقع، وهو عرفٌ بدأ مع اتفاق الطائف الذي نزع ظاهريًا من الرئيس معظم صلاحياته، وجعل رئيس الحكومة هو الحاكم بأمر البلاد والعباد. لكنّ موقف عون أوحى أنّ الأمور تغيّرت اليوم، وأنّ الرجل يعرف كيف يستخدم صلاحياته أو "المفاتيح" التي بين يديه لصنع الفرق، وإثبات أنّ رئيس الجمهورية قادرٌ على فعل الكثير، وإن بصلاحيات مهمّشة ومفقودة.

وفي هذا السياق، يبدو واضحًا أنّ رئيس الجمهورية حين يهدّد بتعطيل الانتخابات وفق قانون الستين، فهو ينطلق من وقائع ومعطيات ملموسة وليس من العدم، ولا سيما أنّ إجراء الانتخابات بموجب القانون النافذ يحتاج إلى مرسوم عادي، ومثل هذا المرسوم لا يمكن أن يمرّ من دون توقيع رئيس الجمهورية، ما يعني أنّ الأخير، إذا ما تمسّك بموقفه الرافض للتوقيع، قادرٌ بالفعل على تعطيل الانتخابات، لتتكرّر بذلك تجربة الانتخابات الرئاسية التي عطّلها أيضًا بحيلةٍ قانونيةٍ، تمثّلت بتعطيل نصاب جلسات الانتخاب. ولا تقتصر مفاتيح رئيس الجمهورية على ذلك، فصحيحٌ أن الرئيس قد لا يكون قادرًا على منع مجلس النواب من التمديد لنفسه في حال ارتأى ذلك، كما فعل مرّتين في السابق، إلا أنّه، دستوريًا أيضًا، يستطيع استباق مثل هذه الخطوة عبر اللجوء إلى وقف جلسات المجلس لمدّة عقدٍ كامل، بما يتخطى مهلة نهاية المجلس، فيصبح الفراغ هو الأمر الواقع، لا التمديد، كما يطمح البعض.

وأبعد من هذه المفاتيح، على تنوّعها، هناك خشية حقيقية لدى "المستقبل"، إذا ما ترجم عون تهديده، وتحقق الفراغ، من أن يكون الهدف الحقيقي هو "المؤتمر التأسيسي"، والكلّ يعلم كم "جاهد" التيار "الأزرق" في سبيل منع مثل هذا المؤتمر، لأنّه يدرك أنّ اتفاق الطائف، بصيغته الحالية، هو أول ضحاياه، خصوصًا في ضوء الكمّ الكبير من الثغرات الموجودة في الاتفاق، والذي يتمّ "فضحها" يومًا بعد يوم، من انتخابات الرئاسة إلى قانون الانتخاب مروراً بتأليف الحكومة، وصولاً إلى الفراغ النيابي، فضلاً عن الصلاحيات الرئاسية المفقودة، والتي يبدو أنّ عون مصمّم على إعادتها إلى الواجهة، ولو أكّد تمسّكه بالاتفاق المذكور في كلّ المناسبات.

من يسعى للصدام؟!

صحيح أنّ ميشال عون يرفض تشبيهه بالرؤساء الذين سبقوه، وصحيح أنّه، كما هو "بيّ الكل" فهو أيضًا "بيّ التغيير والإصلاح" الذي رفعه شعاراً لعهده، إلا أنّ الصحيح أيضًا أنّ الرجل لا يسعى إلى الصدام لا مع "تيار المستقبل" ولا مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" ولا مع غيره، ولا مصلحة له أصلاً بذلك.

كلّ ما يريده الرجل هو أنّ يفي بالوعود التي قطعها، وعلى رأسها إجراء الانتخابات وفق قانونٍ جديدٍ عصري وحضاري، وما على "الممتعضين" سوى تسهيل الطريق أمام ذلك، كونه "الحدّ الأدنى" المتوجّب عليهم، بدل اختلاق هواجس تبدو أبعد ما تكون عن الواقع...