كثيرة هي الوعود النافرة والجريئة التي أطلقها الرئيس الأميركي المُنتخب ​دونالد ترامب​ خلال حملته الإنتخابيّة، ومن بينها وعد بنقل السفارة الأميركيّة من "تل أبيب" إلى ​القدس​. فهل سيُنفّذ وعده في هذا الصدد على غرار شروعه في تنفيذ مجموعة من التعهّدات الأخرى، وما هي النتائج المُترتّبة على ذلك، إن حصل؟

بداية، لا بُد من التذكير أنّ ​مجلس الشيوخ الأميركي​ كان تبنّى في العام 1995 قرارًا يقضي بنقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس، مُعتبرًا أنّ هذه الأخيرة تمثّل "عاصمة إسرائيل ولا يجب تقسيمها"، لكنّ كل الإدارات الأميركيّة المُتعاقبة منذ أكثر من عقدين حتى اليوم، بما فيها إدارة الرئيس جورج بوش، رفضت تنفيذ هذه الخطوة في إنتظار بتّ الوضع النهائي لمدينة القدس بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. وبحسب خبراء غربيّين مُتخصّصين بشؤون الشرق الأوسط والصراع العربي-الإسرائيلي، إنّ إرتدادات نقل السفارة الأميركيّة تتجاوز بعض التصاريح الإعلامية المُندّدة هنا، وبعض التظاهرات المُعترضة هناك، وهي ستتسبّب بعاصفة كبُرى في المنطقة، قد يكون لها تأثير إستراتيجي. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: نقل السفارة يعني تلقائيًا عدم مراعاة مختلف الجوانب القانونيّة والقرارات الدَوليّة التي لا تعترف بقيام إسرائيل بضمّ الجزء الشرقي من القدس، وبالتالي الخروج على إرادة دَوليّة جامعة كانت لا تزال حتى الأمس القريب تُرجئ هذا الملف إلى حين حسمه خلال مفاوضات إسرائيليّة-فلسطينيّة.

ثانيًا: نقل السفارة سيمنح إيران أفضل الحُجج والظروف لتعزيز عمليّات دعم وتمويل وتدريب وتسليح المجموعات القتالية المُوالية لها والتي تعمل تحت مظلّتها، وسيسمح للقوى المعروفة بإسم "محور المقاومة" بالعودة إلى واجهة الأحداث، وبتعزيز نفوذها الأمني الإقليمي، وبعرقلة أيّ محاولات جدّية لإعادة مفاوضات السلام في المنطقة.

ثالثًا: نقل السفارة سيضع الفلسطينيّين في موقع حرج جدًا، وسيُجبرهم على التنكّر لمختلف الإلتزامات السابقة، وسيدفع الجماعات المُتشدّدة منهم إلى الواجهة من جديد، على حساب تراجع القوى "المُعتدلة" بينهم، مع تهيئة الظروف والأجواء لموجة جديدة من العنف والمعارك بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، بدلاً من العودة إلى طاولة المفاوضات.

رابعًا: نقل السفارة سيُعرّض المصالح الأميركيّة والغربيّة عمومًا للمزيد من المخاطر الإرهابيّة في مختلف أنحاء العالم، وسيُمثّل أرضيّة صالحة لإطلاق "دعوات جهاديّة" من الجماعات الإسلاميّة المُتشدّدة، وسيجعل منطق هؤلاء العنفي مقبولاً من قبل شرائح شعبيّة أوسع في العالم الإسلامي.

خامسًا: نقل السفارة يُمكن أن يُمثّل شرارة أميركيّة مُتعمّدة-بالتنسيق مع إسرائيل، لتفجير الأوضاع في الشرق الأوسط، تمهيدًا لإعادة رسم وقائع جديدة، بمجرّد أن تهدأ العاصفة من جديد. وهذه الشرارة يُمكن أن تقتصر على مُواجهة أمنيّة صغيرة في مناطق التماس بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، أو أن تمتدّ رقعتها إلى مدى أوسع وأشمل، في حال قرّر المحور الذي تقوده إيران الدخول على الخط. وهذا الأمر سيسمح للإدارة الأميركيّة بإعادة صياغة بعض القرارات التي ترفضها إدارة ترامب، وفق شروط جديدة.

لكن وعلى الرغم من كل هذه المُعطيات والمخاطر، فإنّ إحتمال إقدام الرئيس ترامب على إعطاء "الضوء الأخضر" لنقل السفارة الأميركيّة من "تل أبيب" وارد بنسبة كبيرة. وهو قد يحصل بشكل مُخفّف، أي أن يتم النقل مثلاً إلى الجزء الغربي من مدينة القدس، وليس إلى شرقها، بشكل يُبقي خيار منح جزء صغير من هذه المدينة التاريخية إلى الفلسطينيّين لإعلان دولتهم المُستقلّة في المُستقبل. كما من المُمكن أن يتزامن نقل السفارة مثلاً مع إعتراف الإدارة الأميركيّة بالدولة الفلسطينيّة. ومن المُمكن أن تتمّ عمليّة النقل بشكل تدريجي، وليس بشكل فوريّ.

في الختام، الأكيد أنّ عددًا من مُسشاري الرئيس الأميركي يحثّونه على الإلتزام بوعده إزاء إسرائيل، إعتقادًا منهم أنّ الفلسطينيّين يعجزون تمامًا عن منع هذا القرار، شأنهم شأن مختلف الدول الإقليميّة بسبب إنغماس هذه الأخيرة في الحروب والمشاكل داخل حدودها، في حين لن يتجاوز إعتراض العالم الغربي مسألة إصدار بعض بيانات الإستنكار والتحذير! وبالتالي، الكُرة في ملعب ترامب، ليختار التوقيت الذي يرتئيه للتنفيذ، بالتنسيق مع السلطات الإسرائيليّة طبعًا، كونها ستتعاطى على الأرض مع الإرتدادات المُتوقّعة، علمًا أنّ لقاء مُرتقبًا في المستقبل القريب بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي دعا أخيرًا كل الدول إلى نقل سفاراتها إلى القدس. وسيختار الرئيس الأميركي أيضًا طبيعة هذا القرار، لجهة أن يكون جزئيًا ومخفّفًا أو حاسمًا وإستفزازيًا بالكامل، في ظلّ حماسة على مُستوى السلطة الإسرائيليّة لهذا القرار، بهدف تحقيق حلم إسرائيلي قديم بتثبيت وقائع ميدانيّة لا يزال العالم يرفض الإعتراف بها منذ عشرات السنوات. وعندها تُصبح كل "سيناريوهات" التصعيد واردة مباشرة بعد القرار، وبشكل تلقائي وسريع، أي قبل أن يتحوّل إلى أمر واقع لا يُمكن تغييره.