لم يكن تتوقع عواصم العالم سرعة المتغيرات السياسيّة الاميركيّة التي يفرضها الرئيس ​دونالد ترامب​. كانوا يظنون أنّ جلوسه على كرسي ​البيت الأبيض​ سيدجّن سيّده، كمّن سبقه. لكن الرئيس الجديد بدا مصرًّا على إحداث فروقات شعارها: مصلحة الأميركيين بالانكفاء لمصلحة ولاياتهم. العارفون يدركون ان ترامب يستند الى دعم كتلة شعبية صلبة داخل الولايات الاميركيّة. تختلف النسبة المؤيدة لسياساته وإجراءاته بين ولاية وأخرى، لكن كتلة داعميه تتجاوز حدود التمثيل الجمهوري.

تنتفض تدريجياً كل الطبقات المستهدفة في إجراءات ترامب، الى حد طرح كالفورنيا الانفصال عن الولايات الاميركية. لا يهمّ الرئيس الجديد التصويت ولا القرار الكاليفورني المرتقب بالانفصال أو عدمه. بالنسبة اليه ما يفعله هو حماية لشعب أميركي يعاني منذ ثلاثين عاماً من سياسات تزيد من فقره وتراجع مستوى المعيشة عنده. ترامب يُدغدغ مشاعر أغلبيّة اميركيّة صافية ضاقت ذرعاً من المهاجرين وسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتعدّد الحروب. لكن ماذا عن الطبقات المعنيّة أي معظم السود؟ هل يتحمّل ترامب انتفاضتهم في حال مضى بإجراءاته؟ يلوح تفكيك الولايات عن اتحادها اذا أقرّت ​كاليفورنيا​ الانفصال. دساتيرها الداخلية قائمة. أنظمتها حديثة. وكأنها العودة الى أيّام ما قبل الاتحاد. او الى زمن الحروب الأهليّة الاميركيّة الاشدّ فتكاً على مستوى العالم. لكن لا توحي المؤشّرات بالوصول الى تلك المرحلة. تعلّم الأميركيون دروساً كافية عن زمن التفرّق. هذا ما يمنع الكاليفورنيين من الانفصال، بل قد يقدمون على احتضان سياسة واشنطن رغم انتقادها.

يتفرج الأميركيّون على اجراء ترامب بحق مواطني الدول السبع الممنوعين من الدخول للولايات. غالبيّة شعبيّة تؤيّد، ونخبويّة تعارض، كما بدا في القرارات القضائيّة. يتذرّع ترامب بالعامل الأمني. هو يحاكي قلق الناس. الغربيون إجمالاً لديهم هواجس من النازحين وتحديدا من القادمين من دول إسلاميّة بعد تمدّد "داعش" وتكرار العمليّات الإرهابيّة في أوروبا. الان يدفع المسلمون أثمان الاعمال الاجراميّة التي نفّذها تكفيريون بإسم الاسلام. صحيح ان كاليفورينا ترفع الصوت، وهيئات قضائيّة وانسانيّة وجمعيّات تعترض على خطوة ترامب. لكن استطلاعات الرأي التي نُشرت في الأشهر القليلة الماضية أظهرت القلق الشعبي في الدول الغربيّة من تمدّد الاٍرهاب. هذا يُعزّز الانكفاء عند الدول والشعوب. وهذا ما يفعله ترامب.

اللافت ان تلك السياسات الاميركية تشجّع الدول الشرق اوسطيّة على مزيد من التفكّك. طرح المناطق الامنة في سوريا يَصبّ في هذا الاتجاه. لا تُفهم الخطوة فقط في إطار تجميع النازحين فيها. بل بالسماح بكانتونات للأكراد والإسلاميين. كأن كل مجموعة ترسم حدود كيانها المستقل، خصوصا بعد إنجازات الجيش السوري في حلب وارياف دمشق وحمص. هنا يجري تفسير عدم السماح دوليا بحسم عسكري في دير الزور او مناطق اخرى في شرق وشمال سوريا.

ترتيبات المسلّحين تكمل المشهد. حروب إلغاء وتصفيات وتجميع وتوحيد واقصاء تمارسها الفصائل المسلّحة بحق بعضها. "جبهة النصرة" تسعى لقيادة المسلّحين تحت أمرتها. هذا ما يحصل شمالا الان. كذلك يفعل تنظيم "داعش" بسحق معارضيه من المجموعات.

المرحلة المقبلة حرب بين جبهتين: الإرهاب الذي يوحّده "الامير القاهر"، ضد سوريا وحلفائها الموحّدين في جبهة عسكرية كاملة. لن يعود هناك مكان لمجموعات معتدلة. ستنخرط بالقتال مع الجيش السوري ضد الإرهابيين. هذا ما تفرضه شروط اللعبة السياسية المرتقبة بعد آستانة وجنيف.

لبنان يترقب صياغة قانون انتخابي جديد لفرز طبقة سياسيّة تواكب متغيرات المنطقة والعالم. كل المؤشرات توحي "بالكنتنة" المقنّعة في ​قانون الانتخاب​ على قاعدة كل طائفة تختار نوابها بقصقصة جغرافيا وتعليب حصص. هذا يشكل معيارًا للمرحلة المقبلة يحاكي ما يجري في الخارج. يُترجمُ ايضاً بترتيب نسبيّ هجين مع أكثريّ تطغى على صيغته. اذا كانت سياسات ترامب هي المسؤولة عن التفكّك او الانكفائية الاميركيّة، والمناطقيّة السورية. فمن المسؤول عن فكفكة الطوائف عن ترابطها اللبناني؟ بالطبع ليس ترامب وحده هو المسؤول من كاليفورنيا الى بيروت.