تنفّس اللبنانيون الصعداء بعد المواقف الحاسمة لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون التي أكّد فيها، بصورة مبدئيّة وعمليّة، أنّ لا عودة إلى قانون الستّين بأيّ شكلٍ من الأشكال، وأنّ إقرار قانون انتخابٍ جديدٍ، كما وعد في خطاب القسم، أمرٌ لن يتراجع عنه، أياً كانت الظروف.

نعى رئيس الجمهورية ​قانون الستين​ السيء الذكر بلا أسف ولا رحمة، وهذا طبيعي. ولكن، ماذا عن القانون البديل الذي تشير كلّ المعطيات إلى أنّه سيكون "مختلطاً"؟ وهل توحي التقسيمات، التي تُطبَخ على نارٍ حامية، والتي تسرّبت سريعًا إلى الإعلام، بالتقدّم الذي يصبو إليه اللبنانيون فعلاً؟

أفضل الممكن...

بدايةً، لا شكّ أنّ النسبية المطلقة، سواء على صعيد لبنان دائرةً واحدة أو باعتماد المحافظات كدوائر انتخابية، والتي يتفق معظم الخبراء على أنّها تشكّل ال​قانون الانتخاب​ي الأكثر عدالة وشفافية وتمثيلاً، تبدو مغيّبة عن حسابات الكتل السياسية، الكبرى منها والصغرى، وإن جاهرت بخلاف ذلك، بعدما اصطدمت بـ"الفيتو" الطائفي والمذهبي الذي لا يزال مختلف الأفرقاء يستغلّونه لتحقيق مآربهم الخاصة، مستفيدين من التركيبة السياسية اللبنانية المعقّدة.

وإذا كان رافضو النسبية يتوجّسون منها لقدرتها على تقليص حجمهم النيابي والسياسي، كما إفساح المجال أمام تمثيل مختلف الشرائح، بما يؤدي إلى كسر بدعة الاحتكار التي تغنّوا بها لسنواتٍ طوال، فإنّ الذرائع التي اعتمدوها لتبرير رفضهم النسبية لم تبدُ مفهومة، من الظروف غير المؤاتية إلى دورها الإلغائي الإقصائي، كما رآه الحزب التقدمي الاشتراكي، وصولاً إلى عدم إمكانية تطبيقها في ظلّ انتشار السلاح، كما جاهر تيار المستقبل، وكلّها أمورٌ تطعن، من حيث المنطق، بالنظام الأكثري لا النسبي.

عمومًا، فإنّ دخول "الطوائف" على خط رفض النسبية وتصويرها وكأنّها تستهدف مكوّناً مذهبياً في وجوده خدم المتضرّرين منها، عبر جعلها خارج "إطار البحث"، أقلّه في الوقت الحاضر، الأمر الذي دفع مؤيّديها في المقابل إلى تصنيف ​القانون المختلط​ من حيث المبدأ "أفضل الممكن"، باعتبار أنّه، رغم كلّ مساوئه وعلاته، يُدخِل النسبية كمبدأ للمرّة الأولى إلى المسار الانتخابي اللبناني، ولو بالحدّ الأدنى، وهو إنجازٌ يُسجَّل للعهد، على أن يتمّ توسيعه رويدًا رويدًا في المستقبل بوتيرة تصاعدية بدل فرضها دفعة واحدة.

شياطين التفاصيل!

من حيث المبدأ، قد يكون القانون المختلط إذاً أفضل الممكن، في ضوء الحملات السياسية التي شُنّت على مبدأ النسبية، والتي سعى الواقفون خلفها إلى تكريس قانون الستين النافذ، مباشرةً أو مواربةً. ولكن، وأبعد من المبدأ، وإذا سلّمنا جدلاً أنّ قانوناً مختلطاً يجمع في الوقت ذاته بين نظامين أكثري ونسبي، رغم التفاوت الكبير بينهما، يمكن أن يكون مقبولاً، ملاحظاتٌ كثيرة تُسجَّل على القانون المختلط الذي يُقال أنّه بات قاب قوسين أو أدنى من الإقرار، والأهمّ على طرق التوصّل إليه، التي لا يمكن وصفها إلا بالمريبة.

ولعلّ الملاحظة الأساسية والجوهرية التي يمكن الإشارة إليها عند الغوص في تفاصيل القانون، التي يكمن فيها أكثر من شيطانٍ واحدٍ بطبيعة الحال، أنّ المعايير التي اعتُمِدت لتصنيف المقاعد والدوائر بين أكثرية ونسبية غامضة وغير موحّدة، حتى أنّ بعض النواب في منطقةٍ واحدةٍ يُنتخَبون وفق النظام الأكثري فيما زملاؤهم في الدائرة نفسها يُنتخبون وفق النظام النسبي، والأنكى من ذلك أنّ الأساس "الطائفي" و"المذهبي" هو الذي استُخدِم كمبدأ للتصنيف، ما يضع القانون في أحسن الأحوال في مصاف "النسخة المنقحة" عن قانون الستين، بل ربما غير المنقحة، علمًا أنّ اعتبار المسيحيين كتلة واحدة وتقسيم المسلمين إلى أربعة مذاهب زاد الطين بلة، ورآه البعض مقدّمة للمثالثة بشكلٍ أو بآخر. وقد تكون "النسبية"، انطلاقاً من كلّ ما سبق، هي "الضحية الأكبر" للقانون المختلط، باعتبار أنّها تحوّلت إلى "شعار" لا أكثر يتمّ من خلاله "الاحتيال" على الرأي العام، وإيهامه بأنّها باتت "سالكة"، في حين أنّها فُرّغت من مضمونها ومعناها عن سابق تصوّرٍ وتصميم، وهنا بيت القصيد الأساسي.

أما "مصيبة المصائب" في القانون المختلط، والتي تأتي كنتيجة بديهية لغياب المعايير الواضحة، أنّ صُنّاعه حرصوا على أن يصوغوه "على قياسهم وقياس مصالحهم" أولاً وأخيرًا، في مخالفةٍ لأبسط مبادئ الديمقراطية، بدليل ما حُكي عن اعتماد معيارٍ ومن ثمّ تغييره عندما تبيّن أنّه يُخسِر هذا الفريق أو ذاك عدداً من المقاعد النيابية، الأمر الذي دفع البعض ليقترح على المعنيّين إدراج أسماء النواب الفائزين في صلب اقتراح القانون، وتعيينهم سلفاً في مراكزهم، بما يوفّر الكثير من النفقات غير الضرورية على خزينة الدولة. ولعلّ "القطبة المخفية" وراء القانون تكمن في "عمليات العزل" التي يسعى البعض لتمريرها من خلاله للمعارضين في أكثر من مكان، عبر تكريس احتكار التمثيل بيد المجموعات نفسها التي تحكم البلاد والعباد اليوم، والتي لا تخفي نيّتها بـ"معاقبة" معارضيها، عاجلاً أم آجلاً، وكأن لا مكان على الإطلاق لأحد غيرها، سواء من الأحزاب السياسية المعارضة أو من المجتمع المدني...

أين الثغرة الحقيقية؟

بعيداً عن الصيغ الانتخابية المتداولة، قد يكون كافياً أن يعرف المرء أنّ القوى السياسية الممثلة اليوم في مجلسي النواب والوزراء هم، حصرًا، من يتحكّمون بمصير قانون الانتخاب، ليدرك أنّ كلّ الأحلام بالتغيير هي وهمٌ بوهم، إذ من غير المنطقي أن يعمل أيّ فريق لإقرار قانون من شأنه أن يهدّد بتقليص حضوره النيابي، ولو بمقعدٍ واحدٍ لا أكثر.

يقودنا ذلك إلى الخلاصة القديمة الجديدة إياها، فالثغرة أيضًا وأيضًا هي في دستورٍ يسمح للجهات النافذة بأن تتحكّم بالبلاد والعباد إلى ما شاء الله، من دون أيّ حسيبٍ أو رقيب...