تزيد الثلوج التي تكسو دول ​أوروبا الشرقية​ جمالها جمالا، لكن الصقيع الذي يضرب مدنها يرخي كآبة غير مسبوقة على سكانها الذين يرزح قسم لا بأس فيه تحت خط الفقر، فتراهم يلهثون وراء سيجارة يستجدونها من سائح او يبحثون عن عود ولو غير مكتمل على جوانب الطرقات. في براغ مثلا، العاصمة التشيكية، يتقاضى سائق الحافلة الصغيرة المتخصصة بنقل السيّاح 500 يورو شهريا، ويعتمد الى حد بعيد لتحسين وضعه المعيشي على ما يتكرم به الركاب من مال اضافي بعد رحلة قد تدوم 14 ساعة مثلا بين براغ وفيينا.

في احدى تلك الحافلات ركبنا للتوجه من تشيكيا الى النمسا. جلست 3 فتيات من الصين في الصفوف الأمامية، فيما جلس رجل من كولومبيا وآخر من اسبانيا في الصف الخلفي. نحن جلسنا في الوسط ننتظر وصول المرشد السياحي الذي سيرافقنا في رحلة تستمر يوما كاملا للتعرف أكثر على معالم البلدين وثقافتهما. المرشدة كانت امرأة ستينية جميلة غطّت وجهها الأبيض بوشاح بنفسجي ولفّت نفسها بمعطف رمادي باحثة عن بعض الدفء بعدما تدنت دراجات الحراراة الى ما دون التسعة. هي أصرت قبل صعودها الى الحافلة على تقديم نفسها باللغتين الانكليزية والاسبانية والتوجه الى كل منا لمعرفة البلد الذي يأتي منه. مرت كل البلدان عليها مرور الكرام، حتى ذكرنا اننا قادمون من لبنان. فاذا بردة فعلها سريعة وغير متوقعة. توجهت مباشرة لباقي الركاب بالقول: "هؤلاء ليسوا عربا... هؤلاء فينيقيون ينتمون الى أمة عظيمة"!. لم نفهم لوهلة اذا كانت تطمئنهم الى اننا لسنا ارهابيين أو أنّها حقيقة معجبة بالحضارة الفينيقية، لكن ومع مرور الوقت تبين أنّها مبهرة باللبنانيين الذين قابلتهم خلال عملها لسنوات في المجال السياحي، والذين تركوا على ما يبدو بصمات مؤثرة في نفسها لم تتردد بالتعبير عنها أكثر من مرة. أما نحن، فلم نعر الكثير من الأهمية للتوضيح لباقي الركاب اذا كنا عربا أو فينيقيين. اصلا لا أعتقد أن أحدا كان يعنيه الموضوع أو يهتم للفوارق ما بين الحضارة العربية او تلك الفينيقية. الا ان مجرد تصنيف يانّا، المرشدة السياحية لنا كجزء من أمة عظيمة، جعلنا فخورين للمرة الأولى خلال تواجدنا خارج لبنان بانتمائنا الوطني. فأحد من المتواجدين في الحافلة لم يسمع عن أزمة نفاياتنا التي لا نزال نجهل كيفيّة التعاطي معها، أو عن اضطرارنا لاستقطاب عشرات الصيادين مؤخرا لممارسة هوايتهم بقتل الطيور على مدرجات مطار بيروت. هم على الأرجح لم يعرفوا بأننا عشنا فراغا رئاسيا لعامين ونصف وأن نوابنا مدّدوا لأنفسهم ولاية كاملة من دون أن يرفّ لهم جفن، فيما تنصرف الطبقة السياسيّة نفسها وزعماء الطوائف بالوقت الراهن على تفصيل قانون انتخابي على قياسهم يضمن عودتهم الى جنة السلطة.

دام التفكير والتعمّق بعبارة يانّا أكثر من ساعة، وانتظرنا أن نُسأل عن انجازات الحضارة الفينيقيّة باختراع الحرف والسفن التجارية وحتى ما تم تداوله مؤخرا من دراسات عن امكانية ان يكونوا هم من اكتشفوا أميركا! لم يدم الشعور بالفخر والاعتزاز كثيرا... طغى بعد وهلة علينا شعور بالخجل، فأين نحن من حضارة صدّرت الحرف للعالم؟ وكيف نسمح بأن نُعتبر جزءا من أمة عظيمة لم نسهم الا في اندثارها على حساب نشوء أمة تتحكم بها الطوائف والمذاهب والغرائز، فاذا بهذا يستنفر لحماية أقليّة طائفية يتزّعمها، وبذاك يخوض مواجهة كادت تودي بالبلد للحد من الغبن اللاحق بطائفته. هذا اذا لم نتطرق لرغبتنا بأن ينتخب المسلمون نوابهم فيما ينصرف المسيحيون لانتخاب من يمثلهم ترسيخا لفكرة الكانتونات الطائفية التي نعيش في كنفها، بدل الانكباب على انشاء دولة علمانيّة تنهض بما تبقى من مؤسسات عسانا نستعيد بعضا من أمجاد الفينيقيين أجدادنا!

لم تَطل الجولة في أوروبا الشرقية. مساء الاثنين عدنا الى بيروت. غريب هذا الشعور بالعشق والانتماء الذي يتملّكك عندما تحط الطائرة على المدرج. دخلنا أروقة المطار. رائحة حريق تفوح في المكان... سألنا فتمت طمأنتنا: لا داعي للقلق، يتم حرق بعض النفايات في المنطقة المحيطة!