منذ أعلن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون موقفه الشهير في الجلسة ما قبل الأخيرة لمجلس الوزراء حول تفضيله الفراغ النيابي على التمديد لمجلس النواب للمرّة الثالثة على التوالي، كُتِب الكثير عن مقاربة "حزب الله" للملف، وما إذا كان عمليًا يؤيد "حليفه" في الذهاب نحو معادلة "إما الفراغ أو النسبية"، خصوصًا أنّه من المنادين بالنسبية على أساس لبنان دائرة واحدة.

ولعلّ أبرز ما كُتِب في هذا الإطار كان أنّ الحزب هو من أكثر المتحمّسين لمثل هذا الفراغ، بل من "المحرّضين" عليه بشكلٍ أو بآخر، كونه سيشكّل "معبراً إلزاميًا" لتحقيق "مخططه" القديم الجديد، أو ما اصطُلح على تسميته بـ"المؤتمر التأسيسي"، تمهيدًا لنسف ​اتفاق الطائف​ وتغيير النظام. فهل هذا هو فعلاً ما يسعى إليه الحزب؟ ولماذا يتجنّب إصدار موقف رسمي وواضح من ذلك، مفسحًا في المجال لما هبّ ودبّ من التأويلات والتكهّنات كما هو حاصلٌ اليوم؟

موقف واضح...

بدايةً، لا شكّ أنّ موقف "حزب الله" من ​قانون الانتخاب​ بات واضحًا، وقد أعلنه مراراً وتكرارًا على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله ومسؤوليه وقياديّيه، كما أنّه بات "ثابتة" في البيانات الأسبوعية لكتلة "الوفاء للمقاومة"، تكاد تتفوّق على "ثابتة" إدانة تدخل "حزب الله" في سوريا، في بيانات كتلة "المستقبل" قبل "التهدئة الإعلامية" التي فرضتها "صفقة" 31 تشرين الأول الشهيرة، التي أوصلت العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية و​سعد الحريري​ لرئاسة الحكومة.

ويختصر موقف "حزب الله" من قانون الانتخاب بدعم النسبية الكاملة مع الدائرة الواحدة أو الدوائر الموسعة، بوصفها "الصيغة المتلائمة مع الدستور والخالية من الاستنساب"، ما يؤشّر بشكلٍ واضح إلى رفض الحزب لـ"الاستنسابية" التي تتحكّم ببعض الصيغ "المختلطة" التي يجري التداول بها، والتي تفتقد إلى المعايير الموحّدة، بل يتمّ وضعها "على قياس" بعض الأشخاص والأحزاب، بغضّ النظر عن مدى قربه في الموقف السياسي من هؤلاء أو بعده عنهم.

وعلى الرغم من إصرار الحزب على النسبية الكاملة بشكلٍ أو بآخر، إلا أنّ اللافت للانتباه أنّه يحرص دومًا في المقابل على "الانفتاح" على صيغٍ انتخابية أخرى يمكن أن يتوافق عليها الجميع، شرط أن تكون "مقبولة"، وهو ما يكرّسه من خلال مشاركته في اللجنة الرباعية التي تبحث في العديد من الصيغ الانتخابية الممكنة، إلى جانب كل من "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل" و"تيار المستقبل"، علمًا أنّ الخبراء والعارفين يؤكّدون أنّ الحزب لن يخسر الكثير على الصعيد الشخصي أياً كان القانون الذي سيُعتمَد، سواء كان أكثريًا أم نسبيًا أم مختلطاً، بل إنّ نسبة خسائره في حال اعتماد النسبية التي يطالب بها قد تكون أكبر من أيّ قانونٍ آخر، باعتبار أنّها ستفسح في المجال لكسر احتكاره مع حركة "أمل" للتمثيل الشيعي، وإعطاء الفرصة لمعارضيه للدخول إلى "جنّة الحكم"، ولو بالحدّ الأدنى.

لا لرفع السقف...

يريد "حزب الله" قانون انتخابات جديداً وعصريًا وحضاريًا، قوامه النسبية بشكلٍ أساسي، إلا أنّ "التفاؤل" في صفوفه ليس كبيرًا بإمكانية الوصول لمثل هذا القانون، ليس فقط بسبب اقتراب "المهل القانونية" من النفاد، بل بسبب اصطدام النسبية، كمبدأ، بـ"الفيتو" من قبل العديد من المكوّنات السياسية، التي تستغلّ صفتها الطائفية والمذهبية، وعلى رأس هؤلاء رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب ​وليد جنبلاط​ بشكلٍ مُعلن، ومن خلفه رئيس الحكومة سعد الحريري، وإن بشكلٍ مستتر.

وعلى الرغم من رفضه لقانون الستّين النافذ بكلّ الأشكال، لصفته "الإلغائية"، إلا أنّ الحزب لا يخفي، انطلاقاً ممّا يصفها بـ"الواقعية السياسية"، توجّسه من الوصول في نهاية المطاف إلى تكريسه كأمرٍ واقع، خصوصًا أنّه "القانون الرسمي" الوحيد، الذي لا يمكن للانتخابات إلا أن تجرى على أساسه، في حال لم يُستبدَل بقانونٍ آخر يحمل صفةً رسمية فعليّة، وإن كان يجزم بأنّه سيقف جنباً إلى جنب "المناضلين" ضدّ هذا القانون حتى اللحظة الأخيرة.

أما حراك "التيار الوطني الحر" ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فيحرص "حزب الله"، كما توحي كلّ المعطيات، على النأي بنفسه عنه، خدمةً له في المقام الأول، ومنعًا لـ"إحراقه" بشكلٍ أو بآخر، بدليل أنّ الحزب لم يدلِ بأيّ موقفٍ من تهويل الرئيس ميشال عون بالفراغ، لا سلباً ولا إيجاباً، ومع ذلك لم يتردّد الكثيرون في نسب هذا الموقف له، بكلّ بساطة. وإذا كان أحدٌ لا يعرف إلى أين يمكن أن يفضي حراك "التيار"، وما إذا كان رئيس الجمهورية سيمضي فيه حتى النهاية أم أنّه سيلجأ إلى "مَخارج" بدأ يُحكى عنها خلف الكواليس، فإنّ الحزب لا يجد نفسه "مضطرًا" إلى "رفع السقف" لهذه الدرجة في الوقت الحاضر، كما يقول العارفون بأدبيّاته، بانتظار أن تنضج الأمور، ويظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود، على أن يكون له عندها الكلمة الفصل...

علاج جذري...

قد يكون "حزب الله"، عبر أمينه العام السيد حسن نصرالله، أول من دعا للمؤتمر التأسيسي، في عزّ الفراغ الرئاسي، إلا أنّ سلوكه التابع لذلك، وخصوصًا بعد موجة الرفض الطائفية والمذهبية التي اصطدمت بها دعوته، وصولاً إلى اعتبارها من قبل البعض مقدّمة للمثالثة، أوحى كأنّه تلا "فعل التوبة"، لدرجة تصنيف الحديث عن أيّ تغييرٍ في النظام، من قريبٍ أو بعيد، ومباشرةً أو مواربةً، في خانة "المحرّمات".

وبعيدًا عن "النوايا الحقيقية" التي انطلق منها الحزب في دعوته الشهيرة تلك، يبقى الأكيد أنّ كلّ الأزمات التي مرّ بها البلد، وآخرها أزمة استيلاد قانون الانتخاب، لم تترك أيّ مجالٍ للشكّ بأنّ المطلوب "علاج جذري" لأزمة النظام في البلاد، باعتبار أنّ معالجة الأزمات التي تنشب بين الحين والآخر بـ"المفرّق" لا يشكّل أكثر من "مسكّنات" لا تسمن ولا تغني من جوع بطبيعة الحال...