لا يمرّ يومٌ واحدٌ إلا ويحمل تصريحًا لأحد قياديّي "تيار المستقبل" أو لرئيس الحكومة ​سعد الحريري​ نفسه يؤكّد فيه أنّ العلاقة بين الأخير ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون في أحسن أحوالها، وأنّ محاولات البعض الاصطياد بالماء العكر على خطّها ستبوء بالفشل.

لكنّ مثل هذا الكلام لم يكن لسان حال وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​ الذي توجّه إلى الرئيس عون بعباراتٍ لا يُفهَم منها، مهما تمّ تلطيفها، إلا وجود "خللٍ" في مكانٍ ما في العلاقة بين الجانبين، خصوصًا حين يقول أنّه لا يجب أن يصبح جزءًا من اشتباكٍ سياسي، ويدعوه إلى "مراجعة مواقفه (...) حرصًا على ألا يتحول مقام الرئاسة وكلام الرئيس الى مسألة خلافية".

فما حقيقة الأمر وسط كلّ هذه المواقف "المتناقضة"؟ هل يمكن الحديث عن "تمايزٍ" جديد داخل تيّار المستقبل، بمعزل عن كونه صحيًا أم لا؟ وهل يجوز وضع مثل هذه الفرضيّة حين يكون الوزير المشنوق، المقرّب جداً من الحريري، هو المقصود والمعني؟

"توأم روح"

منذ تسمية رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري رئيسًا للحكومة، لاحظ اللبنانيون أنّ نغمة "التمايز" التي طبعت التيار "الأزرق" طيلة سنوات "الغربة القسرية" ولّت إلى غير رجعة، بعدما عرف "الشيخ سعد" كيف يفرض "هيبته" ويمنع "التمرّد" في صفوف تيّاره، ولو تحت شعاراتٍ جذابة ورنّانة كالديمقراطية والحرية والتعدّد والتنوّع.

ولعلّ مؤشراتٍ كثيرة ساهمت في تأكيد مثل هذا الاستنتاج، فآخر "المتمرّدين"، أي النائب ​أحمد فتفت​، شبه صامتٍ ومعتكفٍ عن الإطلالات الإعلاميّة منذ الاستشارات النيابية، فيما الوزير السابق أشرف ريفي تحوّل إلى "الخصم الأول" للتيّار في الداخل، كما يعلم القاصي والداني، وحتى النائب ​خالد الضاهر​ الذي قيل أنّه قد يعود إلى أحضان "كتلة المستقبل" بقي خارجها، تفاديًا ربما لأيّ "تمايز" أثبتت التجربة أنّ الرجل لا يستطيع تجاوزه.

ولأنّ الوزير نهاد المشنوق كان في كلّ هذه المراحل أشبه بـ"توأم روح" الحريري، وقد حصد تقدير الأخير في العلن قبل الغرف الضيّقة، فإنّ افتراض أنّ كلامه الأخير يعبّر عن "اختلافٍ في الرؤية" معه لا يمكن أن يستقيم، علمًا أنّ كلّ المعطيات تؤكد أنّ وزير الداخلية كان "عرّاب" معادلة "عون لرئاسة الجمهورية والحريري لرئاسة الحكومة"، وأنّه من ساهم بإقناع الحريري بالسير بها، حتى قبل أن تُصاغ "التسوية الرئاسية" بالمعايير الدوليّة والإقليميّة.

نطق بلسان الحريري

هنا، قد يقول قائل أنّ تصريح المشنوق الأخير ينطلق من موقع الرجل كوزيرٍ للداخلية لا كقطبٍ في "تيار المستقبل"، باعتبار أنّ موقعه يفرض عليه إجراء الانتخابات النيابية في موعدها المقرر وفق القانون، والقيام بكلّ ما يلزم من خطواتٍ سابقة لذلك، بما فيها تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات، وهو لذلك يعتبر أنّ موقف رئيس الجمهورية الرافض لإقرارها يحرجه قبل غيره، خصوصًا أنّ المهل الدستورية بدأت تقترب من النفاد، في حين أنّ "الفراغ" الذي يهوّل به الرئيس، ولو عن حسن نيّة، سيكون بمثابة "انقلاب على الاستقرار"، كما ألمح في حديثه الأخير.

قد يكون مثل هذا التفسير منطقياً في مكانٍ ما، إلا أنّ الواقعية السياسية تفرض القول أنّ وزير الداخلية نطق، من خلال ما قاله، بلسان الحريري أولاً، فهو أعلن عمليًا ما لا يستطيع الحريري أن يتفوّه به، وإن كان مقتنعًا به، باعتبار أنّ رئيس الحكومة حريصٌ أشدّ الحرص على الحفاظ على العلاقة الودية والإيجابية مع رئيس الجمهورية، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، ليس لأنّ البلاد لا تتحمّل تكرار تجربة ثنائية رئيسي الجمهورية والحكومة السابقين إميل لحود ورفيق الحريري فحسب، بل لأنّ "التفاهم" مع الرئيس أكثر من ضروري عشية الانتخابات النيابية، خصوصًا أنّ "الشيخ سعد" لم يخرج من "أزماته المتشعّبة" بعد.

السعودية على الخط...

أبعد من كلّ ذلك، لا يمكن قراءة تصريح وزير الداخلية الأخير بمعزلٍ عن المتغيّرات الإقليمية والدولية، التي نتجت بشكلٍ خاص عن الحراك الذي بدأه الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ مع وصوله إلى البيت الأبيض، والذي يكاد يشكّل "انقلاباً" على سياسة سلفه الرئيس السابق باراك أوباما في الكثير من محطاتها، خصوصًا في ما يتعلق بالصراع الأميركي ال​إيران​ي، وهو الأمر الذي أبرز "ارتياحًا" بشكلٍ خاص في ​دول الخليج​، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تفاءلت خيرًا بسعي الرئيس ترامب إلى "تطويق" إيران، التي بالغ سلفه في التقرّب منها، وصولاً إلى توقيع الاتفاق النووي التاريخي معها.

وفي هذا السياق، تبرز محاولة السعودية لاستعادة دورها الجوهري في لبنان، وهو ما ترجم خصوصًا في أعقاب زيارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى المملكة، وصولاً إلى زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان إلى بيروت خلال الساعات الماضية، والتي لا يخفى على أحد أنّ من غير الجائز حصر أبعادها بما أعلِن عن تعيين سفير سعودي جديد في لبنان قريبًا، وإنهاء حظر سفر السعوديين إلى لبنان، وهو ما يتأكّد من طبيعة لقاءات وتحركات السبهان، والتي بشّرت بوضوح ببدء "مرحلة جديدة" في المنطقة، ولبنان في صلبها.

ولا شكّ أنّ مثل هذا الدخول السعودي المستجدّ على الساحة اللبنانية سيعطي "فائضًا من القوة" للقوى والشخصيات اللبنانية التي تدور في فلك المملكة، وعلى رأس هؤلاء "تيار المستقبل"، ما سيسمح للأخير بالحصول من جديد على "هامشٍ من الحركة" كان قد افتقده إلى حدّ كبير في المرحلة الأخيرة، وهو ما ترجِم تراجعًا واضحًا في النفوذ والقوة، ولعلّ "الصراحة" التي تكلّم بها المشنوق تشكّل "أول الغيث"، ولو بوتيرةٍ بطيئة وخجولة، حرصًا على الإنجازات التي تحقّقت في الداخل اللبناني، والتي لا مصلحة لـ"المستقبل" قبل غيره بالتفريط بها.

"صدمة إيجابية"؟!

يريد رئيس الجمهورية أن يُحدِث "صدمة إيجابية" في الداخل اللبناني من خلال موقفه الواضح والحازم من قانون الانتخاب، إلا أنّه يصطدم، أول ما يصطدم، بـ"امتعاض" أحد أبرز شركائه في الحكم، أي "تيار المستقبل".

بالنسبة لعون، النسبيّة هي الأساس، وفي سبيلها يصبح الفراغ أفضل من التمديد، وبطبيعة الحال أفضل بأشواط من إجراء الانتخابات وفق ​قانون الستين​. أما "المستقبليون"، فلو قُدّر لهم أن يقولوا حقيقة ما يريدون، لذهبوا أبعد من النائب ​وليد جنبلاط​ برفض النسبية، والإصرار على الستين، ومن دون تعديل حتّى.

من هنا، كلام المشنوق قد يكون "رسالة"، ولكنّ "المستقبليين"، الساكتين على مضض، لا يريدون منه أكثر من ذلك، من باب "المصلحة السياسية"، خصوصًا أنّ هناك من يقود "المعركة" نيابةً عنهم في نهاية المطاف...