قبل أيام قليلة من حلول الذكرى السنوية لاغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، وفيما يستعدّ تيار المستقبل لإحيائها باحتفال مركزي يتحدّث خلاله رئيس التيّار ​سعد الحريري​، يبدو أكثر من مشروع التساؤل عن "مصير" ​المحكمة الدولية​ التي شُكّلت لكشف حقيقة الجريمة-الزلزال التي ضربت لبنان قبل اثني عشر عامًا.

فالمحكمة، التي كاد ذكرها يغيب لولا تعديلات اللحظة الأخيرة عن البيان الوزاري للحكومة، التي يرأسها للمفارقة سعد الحريري نفسه، باتت بنظر كثيرين "في خبر كان"، خصوصًا أنّ آخر "إنجاز" فعلي حقّقته يعود إلى أكثر من ستّ سنوات، حين أصدرت قرارها الظنّي، الذي بقي مجرّد "حبرٍ على ورق"، اللهم إلا إذا كان بالإمكان تصنيف محاكمة الإعلام التي انتهجتها في السنوات الماضية ضمن "الإنجازات"...

خيبة أمل...

في كلمته المرتقبة خلال إحياء ذكرى اغتيال والده، رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، لن يتردّد رئيس الحكومة سعد الحريري في تجديد مطالبته بالعدالة وإيمانه بقدرة المحكمة الدولية على كشف الحقيقة تمهيدًا لمحاكمة المتورطين والمحرّضين إلى آخر اللائحة. وهو سيؤكد، على هامش حديثه في السياسة، الذي سيشكّل جوهر كلمته بطبيعة الحال، أنّه لن يتوانى لحظةً عن توفير كلّ الدعم للمحكمة للوصول إلى الغاية المرجوّة، وأنّه لن يتراجع عن ذلك مهما اشتدّت الضغوط.

ولكن، أبعد من الكلام والتعهّدات والوعود، لا يبدو صعبًا على المراقب أن يرصد "خيبة أمل" من المحكمة وأدائها في صفوف من ناضلوا من أجل قيامها وتأسيسها، ولا أن يدرك أنّ هذه المحكمة لم تعد تشكّل "أولوية" حتى بالنسبة لتيّار المستقبل نفسه، وهو الذي لا شكّ يعتبر أنّ قضية اغتيال مؤسسه ستبقى "أولوية الأولويات" بالنسبة إليه، أيًا كانت الظروف السياسية المحيطة، القريبة منها والبعيدة.

وإذا كان "التسرّع" كاد "يطيح" بالمحكمة برمّتها عن البيان الوزاري للحكومة "الحريرية"، فإنّ مؤشراتٍ كثيرةً أخرى تعزّز هذه "الخيبة"، ليس أقلّها أنّها تحوّلت إلى "عبءٍ مالي إضافي" على اللبنانيين، من دون أيّ ترجمةٍ عمليةٍ واضحة، خصوصًا أنّ أي جهودٍ "جدية" لم تُبذَل منذ صدور البيان الظني الشهير، والذي اتهم قياديين في "حزب الله"، بالأسماء، بالتورّط في الجريمة، إذ بقي هؤلاء "متوارين"، في أعين المحكمة والقيّمين عليها، رغم ظهور بعضهم في أكثر من مناسبة "عامة"، كما فعل مثلاً القائد العسكري السابق في الحزب مصطفى بدر الدين عندما شارك علناً في تشييع أكثر من قيادي في "حزب الله"، كجهاد عماد مغنية وعلاء البوسنة، قبل أن يتمّ اغتياله هو الآخر في دمشق.

وقد يكون كافيًا أيضًا بالنسبة لمناصري المحكمة، أن يكون عضو المجلس الدستوري السابق القاضي ​سليم جريصاتي​ هو من استلم حقيبة العدل في حكومة سعد الحريري خلفاً للوزير أشرف ريفي، لتصل "خيبتهم" إلى أوجها، خصوصًا أنّهم لم ينسوا بعد مطالعة جريصاتي القانونية الشهيرة، والتي فنّد فيها، في مؤتمرٍ رعاه ونظّمه بالمناسبة "حزب الله" نفسه، المحكمة من ألفها إلى يائها، ووضعها في قفص الاتهام، وصولاً لحدّ اعتبار أنّها شُكّلت خلافاً للدستور، ما يزيل عنها أيّ شرعيّة، الأمر الذي يجعل برأيهم مصير المحكمة على المحكّ، مهما قال جريصاتي أو غيره.

أداة سياسية؟!

منذ اليوم الأول لتشكيل المحكمة الدولية بعيد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، كأحد إنجازات ما اصطلح على تسميتها بـ"ثورة الأرز"، أو حتى "ربيع لبنان" كما يحلو للبعض تسميته، في إيحاءٍ مبطن بأنّ الربيع اللبناني سبق الربيع العربي بكلّ فروعه، و"حزب الله" يصرّ على توصيفها بأنّها أداة سياسية أريد منها أن تكون سيفاً مسلّطاً في وجهه، لتحقيق ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه في الميدان العسكري في حرب تموز، أي إنهاء حزب الله وتجريده من قوته.

بطبيعة الحال، لم يحصد هذا التوصيف موافقة ورضا مؤيّدي المحكمة، وعلى رأسهم مناصري "تيار المستقبل"، وما كان يُعرَف بـ"قوى 14 آذار"، التي كانت دائمًا تتبنّى كلّ ما تذهب إليه المحكمة من دون الحدّ الأدنى من التمحيص أو التشكيك، رغم كلّ ما كان يُحكى عن ضعف أدلتها، ولا سيما منها تلك المبنيّة على عنصر الاتصالات، الذي ثبت إمكان التلاعب به بكلّ بساطة. إلا أنّ مسار الأمور، بعد ذلك، أوحى أنّ المحكمة شكّلت، بالفعل، في مكانٍ ما أداةً سياسيةً بيد فريقٍ من اللبنانيين بوجه آخر، وهو ما تجلّى خصوصًا بارتفاع أسهم المحكمة عندما يكون الصراع السياسي في أوجه، وانخفاضها إلى حدود العدم عند تراجعه، ويذكر اللبنانيون في هذا السياق كيف تمّ التراجع عن اتهام النظام السوري بالتورط في الجريمة تزامنًا مع الزيارة الشهيرة لرئيس الحكومة سعد الحريري إلى دمشق، حيث التقى الرئيس بشار الأسد، وأعلن أنّ الخطاب الاتهامي السابق للزيارة كان "مسيّسًا".

وفي السياق نفسه، سار الحريري وفريقه السياسي في مواجهة "حزب الله"، الذي تحوّل بين ليلةٍ وضُحاها إلى "المتهم الرئيس" في الجريمة، وسمّت المحكمة أربعة قياديين في صفوفه بالتورّط في الجريمة، فاتحة نقاشًا عمّا إذا كانوا قد تصرّفوا "فرادى" أم "جماعات". هكذا، رفض "المستقبليّون" في أوج الصراع، ولا سيما بعد وصف "حزب الله" للمتهمين بأنّهم "أبطال"، الجلوس على طاولةٍ واحدةٍ مع الحزب، في الحكومة أو خارجها، تحت شعار "لا جلوس مع القتلة"، وإذا بهم يجلسون معه تارة على طاولةٍ حواريةٍ بعنوان "تنفيس الاحتقان وفضّ الاشتباك"، وتارةً أخرى على طاولةٍ حكومية بعنوانٍ ظاهري هو "الشراكة"، وباطني أكثر إقناعًا هو "الحاجة إلى جنة الحكم".

أيّ لبنان نريد؟!

قبل أيام، قال أحد مسؤولي "حزب الله" في لقاءٍ ضيّق أنّ الحزب يعتبر أنّ المحكمة "في خبر كان"، وأنّه يتعاطى معها كما لو أنّها غير موجودة، وهو واقع الحال بالنسبة إليه منذ اليوم الأول.

يبدو هذا الاستنتاج هو الأقرب للواقع فعلاً، فلولا بعض الجلسات الشكلية الروتينية التي لا تقدّم ولا تؤخّر، ولولا بعض "النقاشات الفرعية" التي تُطرَح "على الهامش" في بعض الجلسات السياسية الحوارية، والأهمّ من ذلك، لولا "التكاليف الباهظة" التي يتكبّدها اللبنانيون سنويًا في سبيلها، لنسوا وجود محكمةٍ شكّلت في يومٍ من الأيام جوهر الصراع على "أيّ لبنان نريد"؟!