ينتهي بنا الحديث، عند مناقشة القضايا العامة إلى الجزم بأن التغيير يحتاج إلى سنوات قد تتجاوز الجيل الواحد، فنسلّم ونستسلم للواقع ونتعايش معه. إلا أنني لم اقتنع يومًا بتلك المقولة، واعتبرها دائمًا وسيلة للهرب من الاعتراف بالخطأ، أو بالحاجة إلى المزيد من العمل .

بالنسبة إلى محاولاتي المتواضعة جدًا، كنت قد اخترت عن قناعة أن أشارك في منتديات وورش عمل لقضايا حقوقية متنوعة، على أساس أنها الطريقة الأمثل للتأثير ولإدماج قضايا الإعاقة. لكن، وبعد تجارب طويلة ومريرة، أعتقد أن هذا النهج لا يكفي. البشر يفضلون اختيار الأسهل دائمًا والأقل تعبًا على المستوى الآنيّ والمباشر، ولا يهتمون كثيرًا بما قد يطرأ عليهم لاحقًا. وهذا المؤقت يصبح ثابتًا ودائمًا. والأهم أنّهم يتناسون بشدة علاقة القيم والمبادئ بالحالة الناتجة عن الوضع المعين الذي يحتاج إلى تغيير... ماذا نسمّي هذا؟

عندما أطرح هذا السؤال على أصدقائي أتلقى الجواب الشائع: "أصحاب القضية لا يشكّلون قوة ضاغطة كافية للتغيير"... ببساطة، أتعني هذه المقولة أنّ على كل فئة مستضعفة أن تنكفئ وتضمحل ثم تموت! لا أعتقد أنّ أي شخص مؤمن بحقوق الإنسان، بحدّها الأدنى، يستطيع تجاهل واقع التمييز أو آثار السلوك السلبي الذي يتحكم بحياة الآخرين. فمسألة "ثقافة ما هوعاديّ" تشكلّ الإعاقة الكبرى والأسوأ، ويبني البشر عليها ويتخذون قراراتهم في كل المواقع. تلك القرارات مهما اختلف موقعها وموضعها ستؤثّر بدون شكّ وبشكل جذري في حياة الكثيرين من البشر.

ولن أتمكن في هذه السطور أن أرصد كل أشكال الآثار السلبية لتلك النظرية، لكنني سأعطي مثالًا بسيطًا:

بما أن البلاد دخلت في نقاش حول صيغ ​قانون الانتخابات​ التي توفّر التوازن وتستجيب لكل الهواجس في مختلف الفئات الاجتماعية. وجميع تلك الفئات التي ستتوافق في النهاية على قانون انتخابات يضمن مصالحها، هي نفسها التي ستقبل وبدون أي عناء أن يقصي هذا القانون فئة كبيرة من المجتمع، ولن تراعي معايير هذا القانون الجديد للانتخابات أيًّا من الاحتياجات الإضافية للأشخاص المعوقين، أو كبار السنّ، وغيرهم من المواطنين، الذين يحتاجون إلى تدبير معين أو وسيلة معينة لكي يتمكنوا من ممارسة حقهم في الترشح أو في الانتخاب. وستحضر تلك الفئة في أفضل الأحوال في خانة الـ"إلخ..."، وسيبقى مصير ذلك الحق مجهولًا.

غدًا، لن يجد الشخص المكفوف بطاقة انتخابات مطبوعة سلفًا يمكن وضعها في غلاف من كرتون صُمّم بنفس حجم بطاقة الانتخابات، وعليه أحرف نافرة (أحرف "برايل") وإلى جانبها فراغات مربعات، تتموضع إلى جانب الأحرف النافرة، وتمامًا فوق الأحرف المكتوبه بالطريقة المعتاده. هذه الطريقة غير المكلفة أبدًا تمكّن الأشخاص المكفوفين من ممارسة حقهم الانتخابي بكرامة واستقلالية، وإذا ما أضفنا صورة المرشح أيضًا سنمكّن الأشخاص الذين لا يجيدون القراءة أو الأشخاص الذين لديهم إعاقة ذهنية أو الذين ينسون الأسماء ويتذكرون الوجوه، سنمكّنهم كذلك من ممارسة حقهم الانتخابي بكرامة .

غدًا، لن يتمكن الأشخاص الذين لا يقدرون على استخدام الأدراج من ممارسة حقهم في الانتخابات، والسبب أن الدولة لا تستطيع التسبّب في خضات سياسية من خلال نقل مركز انتخابي من مبنى إلى آخر، أو من شارع إلى آخر؛ لكنها، أي الدولة، تستطيع تجاهل الإقصاء المزمن لهذه الفئة من الناس. المبدأ هو من الأقوى ، وليس احترام حقوق الجميع . ليس أن نعدل أو أن نوازن... لاعلاقة للمبادئ في الأصل وليس للقيم الإنسانية من مكان هنا! هذا الواقع نعود إليه بسبب السلوك المتأثر بنظرية "العادي"، التي تقولب البشر وتقصي كل من هو خارج القالب. هي نظرية تنهي الحياة وتشبه بمعاييرها معايير البربرية.

لذا، لا يمكن لأي شخص يعتبر نفسه مناصرًا للحق ودولة الحق أن يستمر في متابعة الانتخابات من غير أن يتوقف عند مسألة الإقصاء والعزل الحاصل بحق هذه المروحة الواسعة من البشر. ولا يستطيع مرشح أو ناخب أن يتجاهل حق الآخر المسلوب. تُرى هل سنشهد حركة اعتراض مدنية تعبّر عن استنكار هذا الانتهاك الحاصل بحق هذه الفئة من المواطنين؟ أم أن التعبير الاعتراضي سيختصر على فئة الأشخاص المعوقين الحاليين؟ ويبقى السؤال الرئيسي: هل نحن شعب يحمي ويناصر الحقوق - كل الحقوق لكل الناس؟ أم أننا سنرضى بأن نهرب إلى الأمام بغضّ النظر عن كل ما يجري من استمرارية القمع والعزل والحرمان لفئة كبيرة من البشر، من أدنى حقوقها البشرية؟