"سنذهب إلى الانتخابات بمشروع ​رفيق الحريري​ وبه سننتصر"...

تختصر هذه العبارات، من خطاب رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ في الذكرى السنوية لاغتيال والده رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، "أولويات" الرجل في هذه المرحلة، بعد مسارٍ طويلٍ من "التنازلات" و"التضحيات"، التي انتقده ولامه الكثيرون عليها.

في خطابه، لجأ الحريري إلى العواطف أكثر من أيّ شيءٍ آخر. تجنّب مقاربة الملفات الخلافية التي طفت على السطح في الساعات الأخيرة. تحاشى الرد على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله.

كان كلّ اهتمام الرجل منصبًّا على أمرٍ واحدٍ لا جدالفيه، إطلاق معركةٍ انتخابية، لا يريد أن يخرج منها إلا منتصرًا، وهنا بيت القصيد...

خطابٌ داخلي أولاً!

في منطق الأمور، لا يمكن القول أنّ الحريري أطلق معركته الانتخابية مبكرًا، في إشارة إلى خطابه في الاحتفال المركزي الذي نظّمه تيار المستقبل لمناسبة الذكرى السنوية لاغتيال مؤسّسه رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، فالانتخابات باتت "مبدئيًا" و"نظريًا" على الأبواب، اللهم إلا إذا طرأ طارئ وحتّم إرجاءها، إما بعنوان التمديد التقني أو ما شابهه.

ولعلّ الحريري، ومعه تيار المستقبل بالمجمل، بحاجةٍ أكثر من أيّ فريقٍ سياسي آخر لإطلاق الحملة الانتخابية، خصوصًا أنّ الرجل لم ينتهِ بعد من رواسب المرحلة السابقة، التي تحوّل فيها إلى متَّهَمٍ بالتفريط ليس بالأموال التي ورثها عن والده فحسب، بل بالتيار السياسي والشعبي الذي أتاه على طبقٍ من فضّة، فلم يُحسِن استثماره، واعتقد لوهلةٍ أنّه "دائمٌ"، ولو أدار له ظهره.

وإذا كان الحريري تنبّه، متأخّراً، إلى ذلك في الاشهر القليلة الماضية، ما جعله يقدم على خياراتٍ لم تكن محبّذة منه قبل بيئته، من الانفتاح على "حزب الله" وفتح قنوات التواصل والحوار معه، وصولاً حتى دعم مرشحه الأول للرئاسة العماد ميشال عون، رغم كلّ الاختلافات والتباينات السياسية وغير السياسية معه، فإنّه يشعر أنّ الوقت قد حان لطيّ هذه الصفحة، والتطلع نحو المستقبل بعينٍ ثاقبة، خصوصًا بعدما دفع ثمن خياراته من خلال موجات "التمرّد" التي اصطدم بها من أقرب المقرّبين إليه، الذين تحوّلوا بين ليلةٍ وضحاها إلى "خصومٍ" يستغلّون ما يعتبرونه "ضعفاً" من جانبه، ليزايدوا عليه، وكثيرون منهم نجحوا في ذلك.

لكلّ هؤلاء، أراد الحريري أن يرسل رسالته الأساسية والجوهرية من خطابه في 14 شباط، والذي يمكن وصفه بـ"الداخلي" بالدرجة الأولى، وقد اختصرها بقوله "لسنا جمعية خيرية سياسية تتولى توزيع الهبات والمواقع وتقديم التضحيات المجانية". بمعنى آخر، سعى الحريري لإيصال الرسالة لمن يعنيه الأمر، فما اصطلح على تسميتها بالتضحيات والتنازلات اقتضتها الظروف السياسية والداخلية، والانتخابات النيابية وحدها الكفيلة بوضع حدٍ لها، وفتح صفحةٍ جديدة حرص "الشيخ سعد" على وضع "مشروع رفيق الحريري" عنوانًا لها، وفي ذلك أكثر من دلالة...

التحالفات قيد الدرس

عشية خطاب الحريري في ذكرى 14 شباط، قيل أنّ الرجل "حُشِر في الزاوية"، واتُهِم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بأنّه على رأس من "حشروه"، من خلال مواقفه السياسية الأخيرة المؤيّدة لـ"حزب الله" وسلاحه، لتكتمل "مسرحية الحشر" مع الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله بإصراره على النسبية في قانون الانتخاب.

لكنّ الحريري اختار ببساطة أن يكتفي بـ"العموميات" في خطابه. لم يردّ لا على الرئيس عون ولا على السيد نصرالله. أكثر من ذلك، لم يتعرّض لأيّ فريقٍ سياسي، سواء من المصنَّفين ضمن الحلفاء أو الخصوم، باستثناء "حزب الله" تلميحًا لا أكثر، من خلال بعض التعابير التي تتطلبها "المناسبة"، خصوصًا في ضوء الاتهام الموجّه من المحكمة الدولية لعناصر فيه بالتورط بجريمة اغتيال والده، وإن كانت المحكمة برمتها باتت في قفص الاتهام وفي خبر كان.

لم يفعل الحريري ذلك لأنّه بدّل قناعاته، بل بكلّ بساطة لأنّه يريد حفظ "شعرة معاوية" مع الجميع، طالما أنّ الجميع يشكّلون اليوم "مشاريع حلفاء" في الانتخابات النيابية، التي يريد منها "الانتصار"، وفي سبيل تحقيق هذا "الانتصار"، سيكون كلّ شيءٍ مشرّعًا، من دون لا خطوط حمراء ولا صفراء. ولعلّ قوله أنّه ذاهب إلى صناديق الاقتراع، "تحت سقف أيّ قانون يقرّه المجلس النيابي"، وإنّ مرّ عرضًا في سياق كلمته، يحمل الكثير من الدلالات، إذ أنّه قد يُفسَّر على أنّ الرجل بات منفتحًا على أيّ قانون انتخابٍ، وإن كان نسبيًا، بمعنى أنّه لم يلوّح بمقاطعة الانتخابات، بل وجّه رسالة إيجابية للمنادين بالنسبية، تمهيدًا ربما لإمكان التعاون معه.

وكما أنّه لم يعد خافيًا على أحد أنّ الحريري، الذي حظر على قياديّي تياره، من أصغرهم إلى أكبرهم، الدخول في سجالٍ مع "التيار الوطني الحر" على خلفية مواقف رئيس الجمهورية الأخيرة، حريصٌ على الحفاظ على العلاقة الودية والإيجابية معه، لاستثمارها بطبيعة الحال في الانتخابات المرتقبة، فإنّ حرصه في المقابل على تمتين وتحصين علاقته مع رئيس حزب القوات اللبنانية ​سمير جعجع​ تصبّ في الخانة نفسها. وفي هذا السياق، لا يمكن فهم دخول الحريري وجعجع إلى الاحتفال "يداً بيد" سوى في خانة تأكيد التحالف السياسي والانتخابي، والإيحاء بأنّ التباينات بين الجانبين لم تكن سوى "غيمة صيف عابرة"، خصوصًا أنّ "الشيخ سعد" يدرك أنّ "الحكيم" يمكن أن يكون "بوابة التحالف" مع "الوطني الحر" في الانتخابات، إذا ما قُدّر للثنائية المسيحية أن تصل إلى برّ هذه الانتخابات بأمان.

الانتخابات أولاً...

لا يمكن تفسير خطاب رئيس الحكومة في ذكرى 14 شباط سوى من البوابة "الانتخابية". حرصه على مخاطبة مؤيّديه قبل غيرهم، والتأكيد بأنّ التضحيات التي قدّمها ولا يزال لم ولن تكون مجانية، يؤكدان هذا المنحى، تمامًا كما حذره من ترك أيّ ثغرة يمكنها فتح المجال لأيّ سجال من أيّ نوعٍ كان مع أيّ فريق.

ولكن، قبل هذا وذاك، يبدو أنّ على اللبنانيين أن يتحضّروا لمرحلةٍ سيكون اسم رفيق الحريري الحاضر الأبرز فيها، وهو ما دشّنه "الشيخ سعد" بالأمس، وقد يستكمل بحملة انتخابية شبيهة بتلك التي اعتُمِدت قبل سنوات، وقوامها أنّ من لا يصوّت للوائح "زي ما هيي" يقتل الحريري ثانيةً!