بعد أنّ وضع التدخّل العسكري الجوّي والصاروخي الروسي في سوريًا حدًا لقُدرات "المعارضات السوريّة" المُختلفة، كان من المُقرّر أن تنتهي المعارك في الصيف الماضي، إلا أنّ الفشل في إحراز أيّ تقدّم على صعيد المفاوضات دفع موسكو إلى المُوافقة على التورّط في معركة أخرى في حلب التي أرغم سُقوطها مُمثّلي المُعارضة إلى التوجّه من موقع ضعف إلى طاولة المفاوضات. لكن وبحسب الكثير من المُحلّلين الغربيّين، فإنّ معركة كبرى لا تزال تنتظر سوريا في المُستقبل القريب، بغضّ النظر عن قرار موسكو وقف دعم أيّ هجوم ميداني كبير في سوريا بعد اليوم، وهي معركة محافظة الرقة الإستراتيجيّة(1). فمتى ستنطلق، ومن سيُشارك فيها، وما هي التغييرات التي ستُحدثها؟

لا شكّ أنّ إنطلاق ​معركة الرقة​ يحتاج إلى مجموعة من العوامل لم تتوفّر حتى هذه اللحظة، لكنّ العمل الميداني والسياسي والدبلوماسي قائم لتوفيرها، وهي تشمل:

أولاً: تأمين قوّة عسكريّة كافية لشنّ الهجوم على الرقة حيث يتحصّن إرهابيّو "داعش" مع كل المعدّات العسكرية واللوجستية المطلوبة للحلول مكان المُسلّحين.

ثانيًا: تأمين غطاء سياسي للعمليّة العسكرية، لتحديد هويّة القوى التي ستُشارك فيها، وحُدود العمليّة، وأهدافها البعيدة المدى.

ثالثًا: تذليل العقبات القائمة حاليًا، وإيجاد الحلول المناسبة لتضارب المصالح بين مختلف القوى المتورّطة بشكل أو بآخر في الحرب السوريّة.

وفي المعلومات المتوفّرة، إنّ القوى التي ستُشارك بمعركة إخراج "داعش" من الرقّة لن تشمل ​الجيش السوري​ النظامي والقوى الحليفة له، بل قوى تدور في الفلك الأميركي-التركي. وفي هذا السياق، تُواصل تركيا تحضير مجموعات قتالية من السوريّين الفارين إلى أراضيها، ومن الجماعات المُسلّحة التي تُقاتل إلى جانبها في أكثر من مكان حُدودي بين سوريا وتركيا. ولا شكّ أنّ النتائج المُتقدّمة التي حقّقتها هذه القوى، ومن بينها قوّات "درع الفرات"، في مدينة الباب السوريّة بدعم من ​الجيش التركي​، وبغطاء جوّي لطيران "الحلفاء"، تندرج ضمن مُخطّط إستكمال إيجاد "مناطق آمنة" في سوريا، على حساب مناطق سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي. وبحسب الخُطط المرسومة، فإنّه بعد إتمام السيطرة على مدينة الباب، والمنطقة المحيطة، ستبدأ الإستعدادات للتوجّه شرقًا نحو منبج، ثم نحو الرقّة.

وعُلم أنّ أميركا التي فشلت خُططها السابقة في إستعادة الرقّة عن طريق الأكراد وقوى أخرى صغيرة موالية لها، ستستجيب في نهاية المطاف للشرط التركي بعدم إشراك قوّات كرديّة في معركة إستعادة الرقّة المُقبلة، لأنّها بحاجة ماسة لدعم الجيش التركي المُباشر، ولأنّ القوى الميليشاويّة التي تدعمها أنقره قادرة على تأمين دعم ميداني أكبر بكثير من الدعم الذي يُمكن أن تؤمّنه "قوات سوريا الديمقراطيّة" التي يُشكّل الأكراد الجزء الأبرز فيها. وبالتالي إنّ واشنطن تعلم جيّدًا أنّ إشراك قوات كردية بشكل فاعل في المعركة يُعقّد الأمور ولا يُؤمّن النتائج المَرجوّة، خاصة وأن لا قاعدة شعبيّة حاضنة للأكراد في الرقة، ما يجعل من الأفضل الإكتفاء بأن يلعبوا دور القوى المُحاصرة لتنظيم "داعش" من المواقع الحدودية الحالية. لكن حتى تاريخه، لا تزال القوات الكردية تُهاجم مواقع لتنظيم "داعش" في ريف الرقّة، في محاولة منها لمنع خطة الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان القاضية بإبعادها عن أيّ معارك مُقبلة في الرقة، وبمنعها من إقامة منطقة حكم ذاتي كردي مُستقبلاً.

ومن ضُمن أبرز المشاكل التي تُواجه إنطلاق العمليّة العسكرية في الرقة، إضافة إلى ما سبق، وإضافة إلى تأمين القوّة الميدانية القادرة على إلحاق الهزيمة بإرهابيّي "داعش"، مسألة مُعارضة النظام السوري بشكل كلّي، وبدعم من إيران، لأيّ تغلغل تركي في العمق السوري، ولو تحت ستار مُحاربة "داعش". ويسعى النظام بدوره لأنّ تكون معركة إستعادة الرقّة على يده، أو على الأقل أن لا تتمّ هذه العمليّة على يد الجيش التركي والقوى المناهضة للحُكم في دمشق، لأنّ هذا الأمر سيُوجد واقعًا ميدانيًا جديدًا، يمنح مُعارضي النظام مساحة جغرافية واسعة تُمهّد الطريق لأي تقسيم مُستقبلي مُحتمل، ويفرض بالقوّة منطقة آمنة لكل معارضي النظام ولكل الفارين من مناطق سيطرته.

لكن في المُقابل، إنّ الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب بحاجة لتسجيل نصر ميداني على تنظيم "داعش"، وعلى تسجيل نصر معنوي يتمثّل بعودة الحُضور الأميركي الفاعل إلى الشرق الأوسط، بعد أن أسفرت سياسة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، عن إحتكار ​روسيا​ لكامل هذا الحُضور الدَولي، الأمر الذي يجعل من حظوظ إنطلاق معركة الرقة في الأشهر القليلة المقبلة كبيرًا.يُذكر أنّه بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبيّة، إنّ فتح معركة الرقّة بموازاة معركة الموصل المُستمرّة منذ أشهر، يعني إنهاء أيّ وجود جغرافي مهمّ لتنظيم "داعش" الإرهابي، في المُستقبل غير البعيد، لتبقى بعض الجيوب المُتفرّقة التي يُمكن تدميرها تدريجًا، بعد إفقاد التنظيم القُدرة على الحشد والتجنيد وبعد إسقاط هيبته.

في الختام، يُمكن القول إنّ المعارك الصغيرة والمحدودة القائمة في سوريا في المرحلة الحالية تندرج في سياق إطباق الحصار من كل الجهات على إرهابيي "داعش" داخل حدود محافظة الرقة من قبل أكثر من جهة ولمصالح مُختلفة تمامًا، على أن تنطلق المعركة الكبرى التي ستكون بتغطية أميركية، وبمشاركة من الجيش التركي مع قوى حليفة لهما، في الأشهر القليلة المقبلة، بعد إستكمال التحضير اللوجستي للقوى التي ستُشارك في الهجوم الميداني بالتزامن مع إستكمال الحصار على الرقة من مختلف الجهات، وخُصوصًا بعد الحُصول على "ضوء أخضر" أميركي – روسي للعمليّة. فهل ستمنح موسكو هذا "الضوء" بحجّة تقاطعها مع واشنطن على مُحاربة الإرهاب، وفي ظلّ التقارب الحالي مع تركيا، وماذا ستفعل إيران والنظام السوري عندها؟

(1) تقع مُحافظة الرقة التي تبلغ مساحتها الإجمالية نحو 20,000 كلم. مربّع في شمال شرق سوريا، وهي تُشكّل نقطة وصل بين مناطق في وسط سوريا وشرقها وشمالها، إمتدادًا على طول شريط المناطق الحُدوديّة المُرتبطة بالجانب العراقي والتركي.