لم يكن من السهل على احد، في العالمين العربي والغربي، تمرير الكلام الصادر عن الرئيس الاميركي ​دونالد ترامب​ مرور الكرام. فخلال لقائه رئيس الوزراء الاسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​، قال ترامب ان حل الدولتين ليس الوحيد لانهاء الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني، وان حل الدولة الواحدة يرضيه اذا رضي به الطرفان، كما حث على التخفيف قليلا من النشاط الاستيطاني.

ماذا يعني هذا الكلام عملياً؟ في المبدأ، وفي رد فعل اولي، يبدو ان الامر هو بمثابة العودة الى نقطة البداية في المفاوضات الاسرائيلية-الفلسطينية، اي بما معناه الدخول في مفاوضات من دون شروط مسبقة، وهو مطلب اسرائيلي محض ينسف كل الاتفاقات السابقة من كمب ديفيد وصولاً الى اليوم. ولكن بنظرة عملية سريعة، يعني ان اميركا لن تضغط على الاسرائيليين ولا على الفلسطينيين، ما يعني تخليها عن الرعاية التي طالما اشتهرت بها من اجل احقاق السلام. وفي هذه الحالة، هناك امكانية لدخول رعاة آخرين للسلام، من ​روسيا​ الى ​الاتحاد الاوروبي​ الى الامم المتحدة وغيرها... بما يشبه الحالة المصغرة عن الوضع السوري الراهن، مع فارق اساسي وهو انه في المسألة السورية فرضت روسيا نفسها كبلد ممسك بمفاتيح الحلول، ويتعاون مع الدول المجاورة للوصول الى تسوية مقبولة ضمن الرغبات الروسية، اما في حالة الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني، فباب "المناقصات" مفتوح لمعرفة الدول والمنظمات المهتمة للدخول في اللعبة بعد الانسحاب الاميركي.

ليس من المنطقي ايضاً اعتبار ان ما يقوم به ترامب هو التخلي عن كل الاوراق التي تمتلكها اميركا من الشرق الاوسط مروراً بأوروبا والعالم. وبالتالي، ما هو الثمن الذي ستدفعه اميركا بسياستها الجديدة هذه؟ من المبكر جداً الدخول في فكر الرئيس الاميركي الجديد ورؤيته السياسية الخارجية، ولكن وفق ما هو ظاهر، فإنه يبدو ان الادارة الاميركية ترغب باعتماد سياسة مغايرة تماماً لسياسة الادارة السابقة، وقامت بالخطوة الاولى من خلال وضع حدود لتدخلها السياسي في المنطقة، وتقوم الثانية على اعتماد مبدأ "انتظر وراقب" Wait and See، لمعرفة ما ستؤول اليه الاوضاع بعد تدخلات الجميع وبعد اتضاح الصورة وتقسيم النفوذ الذي ستؤول اليه.

وتعلم الادارة الاميركية الجديدة، ان ميزان الصراع الاسرائيلي-الفلسطيني دقيق جداً، وان اي تلاعب به من شأنه ان يؤدي الى عواقب في المنطقة والعالم تهدّد بنسف الكثير من الاوضاع التي نعرفها حالياً، وليس من مصلحة احد الوصول الى هذه النقطة، وبالتالي عمد ترامب الى التخفيف من حماسه بنقل السفارة الاميركية الى القدس، ومن دعمه المطلق للمستوطنات بحيث بات يطالب بالتخفيف قليلاً منها، ومن ادارة ظهره الى وجهة النظر الاخرى التي تؤمّن ابقاء ستاتيكو التوازن القائم حياً حتى بعد الوضع الجديد المنتظر. وعليه، فلن يخاطر الرئيس الاميركي باعادة المنطقة الى آتون الصراعات، ولن يقبل اصلاً اي طرف من الاطراف الدولية والاقليمية بهذا الامر بعد ان دفعوا اثماناً كبيرة في الحرب الدائرة لتحديد اسس جديدة في الشرق الاوسط تمتد لسنوات، وليس لاشهر او لاسابيع فقط.

هذا ما يمكن ان يفهمه المرء من كلام ترامب الاخير، والذي سيثير دون شك ردود فعل معارضة، ليس فقط من الدول العربية، بل ايضاً من اوروبا التي لا يلائمها التعاطي مع مشكلة بهذا الحجم من الصفر، خصوصاً وان القارة العجوز معنيّة مباشرة بالاحداث التي تشهدها المنطقة من جهة، وبمراعاة احوال العرب الذين لجأوا اليها بأعداد كبيرة وباتوا من ضمن بيئتها ومجتمعها من جهة اخرى، وهم قاردون –كما ظهر اخيراً- على خلق مشاكل سياسية وامنية في حال وجدوا انفسهم مستهدفين في شؤون تتعلق بتاريخهم وهويتهم.