عاد الحديث مجدداً عن دعوات وامكانات لعقد طاولة حوار تجمع الاقطاب اللبنانيين برعاية رئيس الجمهورية، وعلى عادة كل طرح يجد طريقه الى الساحة، ينقسم اللبنانيون ازاءه بين مؤيد ومعارض، وينتقل هذا الانقسام الى السياسيين والمسؤولين الذين يدخلون حلبة الآراء والافكار والمواقف ريثما تحسم الامور سلباً او ايجاباً.

ولكن، في نظرة واقعية للوضع، لا يمكن اعتبار انعقاد ​طاولة الحوار​ في هذا الوقت بالذات منفعة او ضرورة او انجازاً، لانه سيغدو مجرد مضيعة للوقت ولن يؤثر على الحياة السياسية او الامنية او الاجتماعية والاقتصادية. كانت ذرائع عقد طاولة الحوار في السابق انها من اجل "تخفيف الاحتقان" وجعل مختلف القوى السياسية قادرة على التواصل مع بعضها ولو لفترة قصيرة من الوقت، وبالفعل كانت هذه المسألة تتحقق لزمن محدّد سرعان ما كانت تتلاشى بعدها وتعود الامور الى ما كانت عليه في السابق.

صدر الكثير من القرارات والاتفاقات عن الحوارات التي كانت تجرى تباعاً ان في مجلس النواب او في قصر بعبدا، واعطيت عناوين رنانة كالاستراتيجية الدفاعية، لكنها لازمت مكانها في التاريخ، لا بل شكلت سبباً اضافياً للنزاع والاختلاف. وبالتالي من المشروع السؤال عن الفائدة التي سيجنيها لبنان من انعقاد طاولة حوار جديدة في الفترة القريبة.

لا حاجة فعلية للقيام بمثل هذه الخطوة في الوقت الراهن لاسباب عدة، اهمها، انه لم يمض وقت طويل على اجراء الانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة، وبالتالي فإن خريطة التفاهمات والاتفاقات السياسية لم تهتز بعد، ولم تتغير بشكل دراماتيكي يوجب انعقاد حوار، كما ان الشارع لم يعد يعيش حالات احتقان وتشنج، والانتخابات النيابية باتت على الابواب، ويتفق الجميع على انها ستقام في موعدها او متأخرة بوقت قليل (تأجيل تقني قصير) في ظل اي قانون سيعتمد ولو لم يكن قانوناً مثالياً او بصورة منقحة عن قانون الستين...

وبالتالي، فإن الوضع الداخلي لا يعاني من مشاكل توجب انعقاد حوار لحله. ويبقى سلاح حزب الله الذي لا يزال حاضراً، ولكن اذا اردنا الكلام بشكل منطقي وواقعي وبعيداً عن العاطفة والمثالية، فإن هذا السلاح حله اقليمي-دولي وليس محلياً. وحتى قبل تدخل الحزب في الحرب السورية، لم يكن باستطاعة احد ان ينزع هذا السلاح سياسياً او بالقوة، وما الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006 سوى خير دليل على ذلك، وقد اتى القرار 1701 والاتفاقات الدبلوماسية والسياسية التي تلته لترسيخ هذه الفكرة.

اليوم، اصبح الكلام عن سلاح الحزب على مستوى دولي، حتى ان اسرائيل باتت تشتكي من انه يمتلك اسلحة تخلّ بالتوازن الاقليمي، فهل هناك بعد من يعتقد فعلاً ان مسألة السلاح ستحل على طاولة حوار محليّة؟.

هذا على الصعيد الداخلي، اما على صعيد السياسة الخارجية، فلم تتغير الامور، ولم يصبح لبنان لاعباً اساسياً على طاولة المنطقة، بل بقي في المقابل ساحة اساسية من اجل التغييرات التي تشهدها المنطقة، ولن تساهم طاولة الحوار في قلب هذا المفهوم او الانقلاب عليه. واذا عجز مجلس النواب ومجلس الوزراء، وفي ظل الاجواء الداخلية الهادئة عن التوصل الى قانون انتخابي يرضي اللبنانيين، فهل هناك من عاقل يأمل بالفعل ان ينتج عن اي حوار سينعقد بمعزل عن المكان والاهداف الموضوعة، غايته؟.

لن تشكل طاولة الحوار في حال اتفق على عقدها، سوى "ابرة مورفين" جديدة في جسم اللبنانيين، وستكون مضيعة للوقت بدل الشروع في اتخاذ قرارات عملية تعنى بالشأن اليومي والاداري والامني والاقتصادي، ولن يتحقق من مقرراتها أيّ شيء، وقد تشكل "دعسة ناقصة" للعهد والحكومة على حد سواء، وضربة متقنة للانتخابات النيابية حيث "ستشرعن" التمديد للمجلس الحالي مجددا. فهل هذا هو المطلوب بالفعل؟