منذ توقيع وثيقة التفاهم الشهيرة بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، يوم كان رئيسه هو رئيس الجمهورية الحالي العماد ميشال عون، لم تشهد العلاقة بين الأخير و"حليف حليفه"، أي رئيس المجلس النيابي نبيه بري، "شهر عسل" كالذي تعيشه اليوم.

فإذا كان الخلاف بين الرجلين وصل إلى أوجه إبان الانتخابات الرئاسية، إلى حدّ كاد بري يصبح معه، في لحظةٍ من اللحظات، الرافض الوحيد لانتخاب "الجنرال" رئيسًا، إلا أنّ "تناغمًا واضحًا" يُرصد اليوم بينهما، لدرجة أنّ بري "يتطوّع" للتهليل لمواقف عون، بما فيها تلك التي "تلتبس" على البعض، كتهويله من الفراغ على سبيل المثال لا الحصر.

فهل يمكن القول أنّ "الكيمياء" التي لطالما قيل أنّها "مفقودة" بين "الجنرال" و"الأستاذ" وُجِدت أخيرًا، حتى بات الرجلان على وفاقٍ تام، أم أنّ الأمر لا يعدو كونه "هدنة مؤقتة" ستُخرَق عاجلاً أم آجلاً؟

وئام ووفاق

عشيّة الانتخابات الرئاسية، كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس تكتل "التغيير والإصلاح" آنذاك رئيس الجمهورية حالياً العماد ميشال عون على تضاد كامل، حتى أنّ كلاً منهما كان ينتظر الآخر "على الكلمة"، كما يُقال، ليوظّفها لمصلحته. ولعلّ قول بري في أحد الأيام أنّه لن ينتخب عون رئيسًا، ولو لم يبقَ غيره معارضًا له، كافٍ للدلالة على مدى عدم الانسجام بين الرجلين، والذي عجزت وساطات "حزب الله" المتكرّرة على التقليل من وقعه بالحدّ الأدنى.

ولكنّ الأمور تغيّرت اليوم، فبري الذي يقول أنّ مشكلته الأساسية مع عون ناجمة عن توصيفه في أحد الأيام مجلس النواب، الذي كان جزءاً منه، بـ"غير الشرعي"، بفعل التمديد له خلافاً للإرادة الشعبية، لم يجد مشكلة في المقابل في تهويل عون بالفراغ النيابي، فقرّر أخذه على المحمل الحسن، بل ذهب أبعد من ذلك لحدّ تلطيف كلام عون وتبريره، عبر وضعه في سياق الحثّ والتحفيز على إقرار ​قانون الانتخاب​ الجديد، رغم أنّه كان واضحًا في أنّ مثل هذا الفراغ غير وارد، والوصول إليه يعني إنهاء الجمهورية في مكانٍ ما.

ومع أنّ بري، حين تحدّث عن "جهادٍ أكبر" بعد الانتخابات الرئاسية طالما أنّ التسوية التي أفضت لانتخاب عون لم تخضع لـ"سلته المتكاملة"، معلناً استعداده للانضمام لصفوف المعارضة، كان يوجّه رسالة إلى "التيار" قبل غيره، إلا أنّه يتقاطع عمليًا إلى درجة كبيرة مع مقاربة عون، ومن خلفه "التيار الوطني الحر"، لقانون الانتخاب، أكثر بكثير ممّا يتقارب "التيار" مع حليفه المستجدّ، "القوات اللبنانية"، على سبيل المثال. فالنسبية، التي يطالب بها الرئيس عون، ينادي بها أيضًا بري ومعه "حزب الله"، في حين أنّ لدى "القوات" بعض المحاذير إزاءها، وإن كانت تتستّر خلف موقف "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"تيار المستقبل"، وفق مبدأ رفضها أيّ قانون لا يرضي حليفيها القديمين.

ولا شكّ أنّ مواقف رئيس الجمهورية في الأيام الماضية من "حزب الله" والمقاومة والصراع مع إسرائيل أتت لتزيد من حجم "التناغم" بينه وبين بري، رغم أنّ هذه المواقف التي تجمعهما ليست بجديدة عمليًا، باعتبار أنّهما، في أوج الخلاف والفراق بينهما، كانا يلتقيان من حيث الفكر، خصوصًا على المستوى الاستراتيجي، وخصوصًا في ضوء تحالفهما، كلّ على حدة، مع "حزب الله"، إلا أنّها مع ذلك تعطي العلاقة الآخذة بالتطور فيما بينهما زخمًا ووهجًا قد تكون بحاجةٍ إليه في هذه المرحلة.

ريبة وحذر

بري وعون متفقان إذاً حول أهم الملفات الخلافية على الساحة الآن، ألا وهو قانون الانتخاب، وهما متفقان أيضاً على المستوى الاستراتيجي، ليس لجهة العلاقة مع "حزب الله" فحسب، بل أيضًا لجهة مقاربة مختلف أزمات المنطقة والمحيط، وعلى رأسها الأزمة السورية.

ولكن، هل باتت الأمور ورديّة بينهما فعلاً لهذه الدرجة، فزالت كلّ الغيوم السوداء والضبابية من حولها، وحطّت الكيمياء بينهما فجأة بعد سنواتٍ من الصراعات التي لا تنتهي؟

الجواب لا شكّ مؤجَّل، باعتبار أنّ الاتفاق المرحلي على نقطةٍ، مهما كانت أهميتها، لا يمكن أن يعني الاتفاق الدائم، خصوصًا أنّ الريبة والحذر تبقيان الأساس في علاقة الثنائي ببعضه، في ضوء رواسب الماضي التي لا يبدو أنّها انتهت فعليًا. وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن العديد من المؤشرات غير الإيجابية بالمُطلَق، من بينها أنّ بري تخلّى على سبيل المثال عن عادةٍ لطالما كان يعتمدها بوصفه رئيس مجلس النواب مع رؤساء الجمهورية، وتتمثّل بزيارتهم بشكلٍ أسبوعي في قصر بعبدا، في حين أنّ زيارات بري إلى القصر الجمهوري لا تزال محصورة ببعض المناسبات البروتوكولية، لا أكثر ولا أقلّ.

وعند الحديث عن "حساسية" جمهور عون إزاء بري، لا يمكن تجاهل حقيقة أنّ جزءاً غير يسير من هذا الجمهور لا يزال يعتقد أنّ مواقف بري من قانون الانتخاب ليست أبدًا ما يعلنه، بل أنّ بري، في نظر هذا الجمهور، هو أكثر تمسّكاً بقانون الستّين النافذ من رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط الذي، وللمفارقة، لا يجد من يدافع عنه أكثر من بري، الذي قال في الساعات الأخيرة أنّه "ليس المشكلة"، وهم لا يخفون انطلاقاً من ذلك خشيتهم ممّا دار في كواليس اللقاء الأخير بين الرجلين في عين التينة. ويتذكّر هذا الجمهور كيف أنّ بري كان يردّد مثلاً أنّه ضدّ التمديد للمجلس النيابي، ولكنّه في نهاية المطاف لم يكن عرّابه فحسب، بل حاول مصادرة الآراء المناهضة له، وما صراعه مع عون سوى خير دليل على ذلك.

في المقابل، لا يبدو "التوجّس" عند جمهور بري من القاعدة "العونية" أقلّ وقعًا، وهم الذين لم يتقبّل الكثير منهم وصول عون إلى قصر بعبدا في ما أسموه يومًا بـ"الانقلاب"، ويجدون أنفسهم أكثر ميلاً نحو رئيس "تيار المردة" النائب سليمان فرنجية منهم إلى عون. ولعلّ "سلوك" بعض الجماهير "العونية" معهم قبل أسبوع فقط، أي في عزّ التقارب بين الجانبين، في قضية ما اصطُلح على تسميته بـ"إساءة" قناة "الجديد" بحقّهم، بغضّ النظرعن مدى "أحقية" هذه القضية، كافٍ للدلالة على أنّ "القلوب المليانة" لم تفرغ بالكامل، ولا يزال هناك عملٌ كثيرٌ مطلوب لترميم العلاقة وبناء الثقة بما للكلمة من معنى.

ورقة تفاهم؟!

حُكي في الأيام الماضية عن "ورقة تفاهم" يستعدّ "التيار الوطني الحر" و"حركة أمل" لتوقيعها، على غرار تلك الموقّعة بين "التيار" و"حزب الله"، والتي تحوّلت تدريجيًا إلى تحالفٍ قد يكون الأقوى على الإطلاق في الداخل اللبناني، باعتراف الحلفاء والخصوم على حدّ سواء.

وسواء صحّت هذه الروايات أم لم تصحّ، فإنّ الأكيد أنّ العلاقة المتأرجحة بين "التيار" و"أمل" تحتاج لتفاهم روحي وقلبي قبل التفاهم على الورق، رغم كلّ الإيجابيات المرصودة، لأنّ كلّ ما يُكتَب يمكن أن يُحذَف بـ"شحطة قلم" ما لم تتوافر مقوّماته وشروطه...