إن السياسة التركية المعاصرة تواجه سلسلة من التحديات المتعددة المستويات، فهي أولاً تواجه تحدي انتظام السياسة الداخلية التركية التي تعتبر الركيزة الأساسية لفعاليتها السياسية، فالسياسة الخارجية لكل دولة تعبر عن تركيبة النظام الداخلي وتعكس الظروف المحيطة به، ولقد وضع مصطفى كمال الذي يعتبره البعض مؤسس تركيا الحديثة مبدأ أساسيا في سياسته حيث قال: "سلام في الداخل سلام في العالم"، وهو مبدأ يوضح مدى أولوية السياسة الداخلية التركية وتأثيرها العميق على الدور التركي في السياسة الخارجية.

الداخلية التركية تشهد اليوم جولات من الكباش السياسي المتكرر والمرتبط بشكل وبنية النظام التركي، فمن ناحية يبرز مسعى الرئيس رجب طيب اردوغان والحزب الحاكم بالتحالف مع حزب الحركة القومية لتحويل النظام التركي إلى نظام رئاسي يضع ثقل الصلاحيات بيد الرئيس، وقد خطى هذا التوجه الخطوة الأولى نحو التطبيق من خلال موافقة البرلمان التركي بتاريخ الواحد والعشرين من كانون الثاني 2017 على التعديلات الدستورية المطروحة، ويبقى طرح هذه التعديلات على الاستفتاء الشعبي الذي من المتوقع أن يحصل في نيسان من العام الجاري وفيما لو كانت نتيجة الاستفتاء الموافقة على التعديلات فهي ستأخذ طريقها نحو التنفيذ.

وبالنظر إلى الكتلة الناخبة التي أيدت الحزبين في الانتخابات البرلمانية الأخيرة يمكن القول إن احتمال مرور هذه التعديلات بالاستفتاء ليس احتمالا ضعيفا على الأقل، خاصة إذا ما نظرنا إلى التزامن بين التوجه نحو هذا الاستفتاء وتأجيج النزعة القومية التركية، ووضع عنوان حماية الكيان التركي من التفتت بفعل ما يعتبره البعض التهديد الكردي الذي استطاع بنظر خصومه الوصول إلى سدة البرلمان، مما يوفر له قوة دفع سياسية لدعم القضية الكردية، لذا اقتضى تعديل صيغة نظام الحكم لمنع استغلال الموقع السياسي المستجد للأحزاب الكردية لدفع قضيتهم سياسيا.

وللإضاءة على زاوية أخرى من التعقيدات الداخلية في السياسة التركية، تجدر الإشارة إلى أن ارتدادات فشل محاولة الانقلاب العسكري التي جرت في تموز من العام 2016 تركت شرخا عميقا بين المؤسسة السياسية من جهة والمؤسسة العسكرية من جهة أخرى، لا سيما وأن العلاقة بين الجانبين كانت علاقة جدلية منذ مدة طويلة وقد عمل الرئيس اردوغان وحزبه منذ بداية وصولوهم إلى السلطة السياسية في العام 2002 على تقليم أظافر العسكر والحد من تأثيرهم في السلطة السياسية، وإلاضطراب الناجم عن ارتدادات فشل محاولة الانقلاب العسكري ينسحب على السلك القضائي والمنظومة الجامعية نظرا لما طالهم من إجراءات تتراوح ما بين الفصل والسجن ونحوه.

بالمحصلة فإن السياسة الداخلية التركية تترنح في ظل هذه الأزمات التي تبدأ من الاختلاف على شكل النظام السياسي مرورا بالأزمة الكردية والعلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية واضطراب السلك القضائي والمنظومة الجامعية والفشل في معالجة أي من هذه الأزمات، سيكون له راتدادات جوهرية على السياسة التركية.

وفي سياق متصل فإن السياسة الخارجية التركية ليست أفضل حالا من السياسة الداخلية، فمن المعلوم أن هناك ترابطاً عضوياً لصيقاً ما بين السياسية الداخلية والسياسة الخارجية، فلقد اعتبر جايمس روزنو في احد دراساته الرائدة المعنونة: "دراسة التكيف السياسي" أن السياسة الخارجية هي آلية تسمح للدولة بالتكيف مع المتغيرات المحيطة بها، والتغير بالسياسة الخارجية ناتج عن بروز متطلبات وحاجات جديدة على الصعيد المحلي والخارجي.

فإن كنا أوضحنا فيما سبق أبرز التحديات المحلية التركية لا بد لنا من أن نضيء على أبرز التحديات التي تواجهها تركيا في سياستها الخارجية، فالسياسة الخارجية التركية تعمل في مسارح متعددة نظرا للموقع الجيواستراتيجي المتميز لتركيا، فهي تشترك بحدودها مع كل من سوريا والعراق و​ايران​ وبمعنى آخر مع بوابة الشرق الأوسط الملتهب، كما تشترك بحدودها مع أرمينيا أذربيجان وجورجيا بوابة منطقة جنوب قزوين التي تطبق عليها روسيا سياسة الجوار القريب وتطبق عليها بقبضة حديدية محكمة لمنع أي مسعى لإضعاف نفوذها فيها، كما وتشترك بحدودها مع اليونان وبلغاريا وهي بوابة العلاقة مع أوروبا.

فالنظر إلى المسرح الشرق أوسطي الملتهب يضع السياسة الخارجية التركية أمام مشهد بالغ التعقيد، فالأزمة السورية تحمل بين طياتها خطر وجودي لتركيا فيما لو اقام الاكراد السوريون كياناً مستقلاً على الحدود معها كما هي حال إقليم كردستان الذي أقيم في العراق، فقيام كيان كردي على الحدود السورية التركية قد يشكل ساحة خلفية لدعم الحراك الكردي داخل تركيا وبالتالي يتصاعد التهديد لوحدة الأراضي التركية وهو ما لا يمكن للسلطة التركية السماح به، وفي سياق متصل فإن تطورات الأزمة السورية جاءت بعكس توجهات السياسة التركية ما قبل محاولة الانقلاب الفاشلة، معطوفة على تقدم الدور الروسي في الأزمة السورية على حساب الدور الأميركي من جهة، والموقف الأميركي التي تعتبره تركيا ملتبس بخصوص محاولة الانقلاب الفاشلة بخلاف الموقف الروسي والإيراني الذي دعم السلطات التركية من جهة أخرى، وتوتر العلاقة التركية الأميركية على خلفية رفض الولايات المتحدة تسليم عبد الله غولن التي تعتبره تركيا المحرض الأساسي على محاولة الانقلاب الفاشلة، مجمل هذه المتغيرات بالتزامن مع تراجع دور القوى العربية الحليفة لتركيا في سوريا بعد الحضور الروسي القوي والمدعوم بتحالف سوري إيراني دفع تركيا إلى إعادة النظر في مقاربتها للسياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط.

لا سيما أن الحسابات الاستراتيجية للتوازنات في الشرق الأوسط تفسح في المجال أمام دور فاعل لتركيا، فانشغال المملكة العربية السعودية في الأزمة اليمنية وإنشغال مصر في التحديات الداخلية يجعل خيار تفعيل الدور التركي لموازنة الدور الإيراني في المنطقة خيارا يلقى قبولا ورواجا من قبل بعض القوى العربية الفاعلة. وتجدر الإشارة هنا إن التقارب التركي الروسي في المرحلة الراهنة والذي تجلى في مؤتمر الاستانة قد يفتح الباب أمام روسيا لتكون هي راعي هذا التوازن التركي الإيراني في الشرق الأوسط.

مشهد التوازنات في الشرق الأوسط يختلف عن واقع التوازنات في المسرح القزويني، فالعلاقة التركية مع أرمينيا يشوبها توتر تاريخي حول اتهام أرمينيا لتركيا بالقيام بما تسميه إبادة ضد الأرمن إبان الحرب العالمية الأولى، وتعتبر تركيا بالمقابل أن هذه الادعاءات باطلة، ولطالما شكلت نقطة تبني وجهة النظر الأرمنية بؤرة توتر بين تركيا وأي دولة توافق أرمينيا على اتهاماتها، أضف إلى ما تقدم إن أزمة إقليم ناغورنو كرباخ ما بين أذربيجان وأرمينيا تشكل عامل توتر إضافي ما بين تركيا وأرمينيا حيث إن تركيا كانت تقف إلى جانب أذربيجان في هذه القضية بخلاف روسيا وايران اللتين دعمتا أرمينيا نظرا لحسابات ترتبط بالتحالف الروسي الأرميني من جهة، والعلاقة الشائكة بين أذربيجان وايران بسبب الاذاربيجانين الذين يعيشون في إقليم أذربيجان الإيراني والخوف من الوحدة الأذربيجانية لما تتضمنه من تهديد لوحدة الأراضي الإيرانية من جهة أخرى، لكن مشهد العلاقات المعاصرة ما بين أذربيجان وايران اختلف بسبب مجموعة من العوامل المرتبطة بمشاريع الطاقة من ناحية، وبالسعي لإغلاق باب توسع العلاقات ما بين أذربيجان والكيان الصهيوني خاصة في المجال العسكري من ناحية أخرى، ناهيك عن السعي الإيراني لفك الارتباط ما بين السياسة الخارجية الأذربيجانية والسياسة الخارجية الأميركية التي كثيرا ما كنت تسبب الازعاج للسياسة الخارجية الإيرانية، وبالمحصلة التعايش الإيراني الأذربيجاني ممكن أن يساهم بتوفير قنوات جديدة للعمل المشترك من اجل حل قضية ناغورنوكرباخ، وأي مسعى للحل يشترط أن يلاقي رضا روسيا لما تمتلكه الأخيرة من وسائل ضغط فعالة جدا تجاه أرمينيا للقبول به وكذا القدرة على تعطيله.

أما جورجيا وهي الحلقة الأخيرة من المسرح القزويني، فبالرغم من التقارب التركي الجورجي للعديد من الأسباب ومن أشهرها التعاون في مجال الطاقة والذي يعبر عنه خط النفط الشهير باكو- تيبليسي-جيهان، فإن جورجيا وبفعل التضارب الصارخ ما بين سياستها اللصيقة بالسياسة الخارجية الأميركية مع السياسة الخارجية الروسية، وبسبب المسعى الجورجي الحثيث للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي وهو ما تعتبره روسيا خنجرا في خاصرتها، عملت روسيا للرد على هذا التهديد بشكل تصاعدي تدريجي كانت ذروته التدخل العسكري الروسي في العام 2008، الذي أدى إلى انفصال إقليم ابخازيا واوسيتيا الجنوبية عن جورجيا والاعتراف بهما كأقاليمين مستقلين من قبل روسيا، ومن الواضح ان التدخل الروسي المباشر والحزم الروسي في جورجيا جعل صوت السياسة الخارجية التركية يخفت تجاه جورجيا.

بناء على ما تقدم فإن المسرح القزويني بالنسبة للسياسة الخارجية التركية يختزن قضايا شائكة تتطلب منها التعاون مع روسيا من أجل تمرير أهداف سياستها الخارجية دون أن تتلقى ردود فعل وعراقيل من روسيا، وبالتالي فإن تركيا في المسرح القزويني لا تتوفر لها مواصفات الوكيل المقبول من روسيا القوة الكبرى الراعية للمنطقة، ذلك لأن هذه المنطقة هي من ضمن الجوار القريب الروسي والتي لا تسمح به روسيا بأي مساومة على نفوذها وأهدافها.

المسرح الأخير للسياسة الخارجية التركية في معالجتنا هذه هو المسرح الأوروبي، وهذا المسرح كان من ضمن الأولويات التركية حينما سعت تركيا للدخول إلى الاتحاد الأوروبي، لكن بعدما شهدت مفاوضات الانضمام العديد من الاضطرابات والعراقيل بوجه الدخول التركي، ومن أبرزها التصريح الواضح من بعض القادة الاوروبين (ساركوزي–ميركل) عن الخوف من أن الدخول التركي إلى أوروبا سوف يهدد الهوية الأوروبية نظرا للكتلة التركية المسلمة، تراجع مسار العمل للدخول إلى الاتحاد الأوروبي في السياسة الخارجية التركية دون أن يعني هذا تراجع العلاقات التركية الأوروبية، إلا أن الأزمة السورية وما أفرزته من أزمة لجوء ضخمة جدا سببت أيضا توترا في العلاقات التركية الأوروبية، حيث إن اللاجئين كانوا ينتقلون من البوابة التركية نحو أوروبا، وهنا أعتبرت أوروبا أن تركيا لا تقوم بما يكفي من أجل الحد من عملية اللجوء التي شكلت عبء على بعض الدول الأوروبية، وقد عبر بعضها عن رفضه الصريح لاستقبال اللاجئين وهذه القضية سببت انقساماً حتى في الداخل الأوروبي.

أضف إلى ما تقدم الاضطراب الحاصل في الاتحاد الأوروبي على خلفية المشاكل الاقتصادية المتراكمة التي ليس أقلها أثر سعر اليورو مقابل الدولار على التجارة الخارجية الأوروبية، وأثر أزمة الديون اليونانية وارتداداتها على دول الاتحاد بشكل عام، وتململ الدول الأوروبية القوية اقتصاديا كالمانيا وفرنسا وبريطانيا من مسؤولية المساهمة في تحمل أعباء ومشاكل دول الاتحاد الضعيفة اقتصاديا، ناهيك عن تصاعد النزعة القومية في العديد من الدول الأوروبية، وتراجع الدور الأوروبي في السياسة الدولية بفعل غياب الرؤية الموحدة للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وقد ظهر أثر هذه العوامل من خلال عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الاروبي أو ما عرف بـ(Brexit).

مجمل المعطيات سابقة الذكر جعلت المسرح الأوروبي أقل جاذبية بالنسبة للسياسة الخارجية التركية دون أن يعني ذلك بالضرورة التخلي عنه أو الابتعاد عنه. لذا وبعدما عرضنا المعطيات الموضوعية المرتبطة بمسارح السياسة الخارجية التركية يتضح جليا، أن المعطيات الدولية سواء المسعى الروسي للعودة بقوة وفعالية في السياسة الدولية، معطوفا على توجهها نحو الشرق الأوسط، وتراجع التعاون التركي-الأوروبي، والمقاربة الذاتية الأميركية المنطلقة من مقولة الرئيس ترامب أميركا أولا، وبالتالي ترك الحلفاء ليعملون بشكل مركز أكثر على معالجة مشاكلهم بأنفسهم، بالتزامن مع الإضطراب في السياسة الداخلية التركية، مجمل هذه المعطيات تدفع بتركيا إلى اعتماد سياسة خارجية متعددة المسارات، كما وتدفعها للتوجه نحو جوارها الاقليمي في قزوين والشرق الاوسط مع الاحتفاظ بعلاقات مميزة مع كل من روسيا-الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مما يسمح لها بأن تتحرك بفعالية اكبر على الساحة الدولية ويمنحها القدرة على التكيف مع التحديات، على اعتبار انها تستطيع التوجه نحو الخيار الروسي إذا ما كان توجه الولايات المتحدة يضر بها، وباتجاه الخيار الأوروبي إذا ما كان الخيار الروسي يضر بها وبالعكس.

بالمحصلة فإن مقاربة تركية مستقلة تهتم بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية ومبنية على المعطيات التركيةأافعل في معالجة القضايا الداخلية و الخارجية، وهذه المقاربة قد تفتح لها مجالات جديدة للتعاون، كالتعاون مع الصين ومنظمة شنغهاي مثلا، بخلاف خيار الالتحاق بجبهة معينة تحرمها من فرص تعاون محتملة تحتاجها تركيا...