كان لا بد أن يزور الرئيس الفلسطيني محمود عباس لبنان في هذا التوقيت بالذات لأسباب تتعدّى الأبعاد السياسية البحتة لتصل حدود إعادة اللحمة وتثبيت الحضور الفلسطيني في لبنان من خلال المخيمات، ضمن المعايير المعروفة والمعتمدة وكودرتها ضمن منظومة الدولة اللبنانية واستثنائيتها، خصوصاً بظل الأجواء التي تحيط بالمخيمات الفلسطينية في لبنان والحذر الملحوظ الذي يظهره الشارع اللبناني من المخيمات، بسبب اعتبارها إحدى البقع الأمنية الخارجة عن سيطرة الدولة، وإن حضرت على شكل تعاون مخابراتي مشترك مع القوى الفلسطينية داخلها، أبرزها مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا الذي يختبئ فيه متورطون بأعمال إرهابية بأعداد كبيرة.

المشاكل الأمنية الفلسطينية داخل المخيم وصلت لمسامع الرئيس محمود عباس، حيث استقبل أولاً على صوت اشتباكات متبادلة في عين الحلوة بين عناصر من حركة فتح وإسلاميين من قلب المخيم وهنا رسالة شديدة الوضوح وصلت لمسامع الرئيس عباس على أن لا تكون زيارته مقدّمة للاتفاقات مع الدولة اللبنانية التي تبدو حريصة في هذا العهد على إنتاج صيغ مناسبة لمكافحة الإرهاب، خصوصاً بعد ما ظهر من مستوى عالٍ من الأجهزة الأمنية من تعقب الحركات الإرهابية في لبنان. تصويب مباشر على الفتحاويين في المخيم منذ أول ساعات الزيارة, أجواء من القلق والذعر بدلاً من تحويل الزيارة مناسبة سعيدة للمخيمات التي من المفترض أن تتابع الزيارة الهامة من دون أي نوع من التشويش، لكن خطورة الموقف والرسالة التي تبدو اساسية على جدول اعمال الرئيس الفلسطيني اكبر من ان تترك للقضاء والقدر في مخيم يغلي منتظراً مصيره. فالجيش اللبناني وجهاز المخابرات رفع من سقف متابعاته للمخيم في الفترة الأخيرة بالتعاون مع الاجهزة اللبنانية، وقد سبق حديث عن بناء جدار يفصل بين المخيم في صيدا والمدينة ما يعني ان الملف مطروح بشكل واضح على الطاولة.

التعاون بين الأجهزة الأمنية وحركة فتح داخل المخيم وباقي الفصائل الفلسطينية هو أكثر ما يهدّد المتطرفين الإرهابيين القابعين داخل المخيم، خصوصاً مع تداول معلومات حول نسبة لا بأس بها من المتطرفين المنتمين لحركات بدأت تشهد حضوراً ملحوظاً داخل المخيم يكاد ينافس الحضور الفلسطيني المعهود الأمر الذي يزيد الملف تعقيداً ويرفع من مظلومية الفلسطينيين الذين يعيشون داخل المخيم وغيره من المخيمات في لبنان كمخيم برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية الذي يعتبر مركزاً آخر لجأ اليه عدد من الإرهابيين لتنفيذ عمليات في بيروت وباقي المناطق، حسب معلومات متواترة في المرحلة السابقة.

زيارة الرئيس الفلسطيني التي هدفت الى تجديد التأكيد للدولة اللبنانية على اهتمام السلطة الفلسطينية بشكل كبير بما تعتبره ثوابت حلّت كحدث أول في مشهد عربي مقيت خفض من منسوب حضور القضية الفلسطينية الى أدنى مستوياتها مع سعي لإعادة فتح ملف توطين الفلسطنيين خارج بلادهم، كما تداول مؤخراً في سيناء المصرية وهو طرح أميركي بحثته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون جدياً مع الجوار العربي إثر اندلاع ثورة مصر الاولى.

عباس الذي أكد أن ملف اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هم ضيوف، أكد أيضاً أنهم سيعودون الى بلادهم بشكل أكيد وأنهم تحت سقف القانون اللبناني وأنهم لن يكونوا جزءاً من أي نزاع داخلي أو وقوداً لأي صراع إقليمي على خلفية الأحداث التي تعيشها المنطقة. أكد هواجسه من ان يتم استغلال المخيمات لأغراض من هذا النوع تأخذ الدولة اللبنانية نحو ما تطلبه او تفرضه الظروف كتلك التي فرضت على مخيم نهر البارد.

بدّد عباس أمام الرئيس عون بطريقة غير مباشرة مخاوف المسيحيين بالتوطين قاطعاً الطريق على ما يحكى عن توطين للاجئين السوريين في لبنان بعدما جدّدت فلسطين كمركز القضايا وأكثرها «استعصاء» أنها لن تترك اللاجئين يندمجون الى الأبد في الدول المضيفة حتى التوطين، ما يسقط الحجة مباشرة على قضايا باتت آمال الحلول تدخل اليها من بوابات الديبلوماسية الدولية كالأزمة السورية.

اغتنم عباس فرصة وجوده في لبنان للتأكيد على هذه الثوابت، لكن حضوره ايضاً من بيروت يشكل اغتناماً من نوع آخر يمكنه من استثمار التصريحات من بوابة بيروت العاصمة التي أصبحت تشكل مكبراً «صوتياً» قادراً على اختراق نشر المواقف بسرعة نظراً لموقعها العربي البارز، خصوصاً مع ما يشكله عهد عون من رفع لحيثية لبنان وتقوية لمكانته بعد سنتين من الفراغ فعرف عباس أن رسائل وإيحاءات من نوع التمسك بفلسطينية القدس ورفض نقل السفارة الاميركية اليها تحمل صدى آخر من بيروت.

اعادة اللحمة وترتيب البيت الداخلي لحركة فتح بعد سلسلة الخلافات التي عاشتها مؤخراً بين كوادر وعناصر اساسي أيضاً في هذه الزيارة التي كان لا بد من أن تتم، خصوصاً لما تشكله مسألة المحافظة على علاقات طيبة بين الحركات الفلسطينية والدولة اللبنانية من ضمانة أساسية لعدم انفجار الأوضاع داخل المخيم الفلسطيني.

وعلى أن الزيارة تحمل نوعاً من النتائج الإيجابية على هيكلية حركة فتح في لبنان إلا أنها ليست قادرة بالتأكيد على إيجاد حل سحري لمسألة التطرف الذي يقطن داخل المخيمات في لبنان، مع العلم أنه هاجس أساسي لدى السلطة الفلسطينية، الأمر الذي يبقي كل الامور مفتوحة ويبقي المخيمات جميعها واقعة تحت رحمة التهدئة والوساطات والمسايرات والمتابعات اليومية.

زيارة عباس ضرورة لا بد منها..