الشوق الذي يستبد باللبنانيين ليس فقط الى أهمية إقرار موازنة عامة فحسب، بل أيضاً الى مناقشة فذلكة ​الموازنة​ وبنودها في مجلس النواب، بعدما افتقدنا الكثير من أسس العمل في نظام ديموقراطي برلماني، مثل نظامنا. إذ من حيث المبدأ الدستوري - القانوني لا يمكن تخيّل »دكان« صغير من دون «موازنة»، فكم بالحري ان دولة قائمة بذاتها (أو هكذا يُفترض) تمضي من دون موازنة طوال إثني عشر عاماً بالتمام والكمال... ويكون الإنفاق على القاعدة الإثنتي عشرية، وهي قاعدة قانونية، من دون شك، ولكنها استثنائية، والغاية منها لحظها المشترع في حتمية استمرار عمل الدولة بمرافقها العامة في حال تأخر إقرار الموازنة لسبب أو لآخر بضعة اسابيع على الأكثر، فيتم اللجوء الى الإنفاق على القاعدة الإثنتي عشرية للقضايا الملحّة مثال صرف المرتبات والتعويضات المستحقة والمعروفة قانوناً والمقرر سلفاً.

ومن أسف اننا توسعنا في هذه القاعدة خلافاً لكل مبدأ قانوني، ولروح الدستور والقانون، فالبضعة اسابيع أضحت أشهراً، والأشهر أضحت سنوات طويلة جداً: فقط اثنتا عشرة سنة لا غير!

نقول ان الشوق يستبد بنا الى جلسات مناقشة الموازنة العامة في مجلس النواب قدر شوقنا الى اقرارها... وتحضرنا في الذاكرة تلك الجلسات المهمة التي كان مجلس ساحة النجمة يعقدها لمناقشة الموازنة وتستمر أياماً بنهاراتها وقسم كبير من لياليها، فيفرغ النواب ما في جعبة كل منهم من آراء وأفكار واقتراحات تعديلات وايضاً من فصاحة وبيان و.. مهابة البعض.

واننا نستحضر في هذا السياق تلك الخطب الطنّانة الرنّانة التي كان يُحسب لها الحساب، خصوصاً وأنّ بعضهم لم يكن يتحدّث سوى مرة واحدة في السنة: خلال مناقشة الموازنة، مثال النائب (الرئيس لاحقا) سليمان فرنجية الذي كان يأتي بمطالعة تستغرق تلاوتها نحو ساعتين، يُشرف على الجانب الإقتصادي فيها الدكتور الياس سابا. وطوال الساعتين كنت إذا رميت الإبرة تسمع رنّتها. فما كان نائب يتنحنح من هنا أو حتى يسترسل في «الكحة» من هناك إذا دهمته خلال التلاوة.

وكان كمال جنبلاط يمزج الفلسفة بالسخرية والهزال بالجدية ويقوم، في مداخلته، بجولة تبدأ في عواصم دول عدم الإنحياز لتحط عند بيوت التنك التي تزنّر العاصمة، ليطلع بجديد في كل مرة كأن يطالب بوقف استيراد السيارات سنتين أو ثلاثاً، مشمئزاً من «أكوام المتنكّات» إشارة الى تجميع بقايا السيارات التي أضحت خارج الإستعمال.

وكان العميد ريمون إدة، فارس الديموقراطية الذي لا يجارى، يصرُّ على المطالبة بقوات الطوارىء الدولية بين لبنان وفلسطين المحتلة، قبل فوات الأوان... فيلقى تحاملاً عليه من منافقين كثر... حتى عندما استعان لبنان بهذه القوات كان السيف قد سبق العزل.

وكان الرئيس رشيد كرامي ينزل الحكومة من المنخل وليس فقط من الغربال عندما لا يكون في السراي... أما إذا كانت الحكومة برئاسته فيأتي دفاعه طوال ساعتين أو أكثر إرتجالاً، فيرد على كل إنتقاد من دون أن يكون قد سجّل على قصاصة ورق أي كلمة أو إشارة أو حرف.

أما كامل الأسعد فتلتقي أناقة كلماته مع أناقة المظهر وعنفوان الأداء وصلابة الموقف والوطنية.

بينما الشيخ بيار الجميل لم تكن تعنيه الفصاحة والبلاغة بقدر ما يعنيه عمق الإلتزام بقضايا لبنان، ولو تلقى، ظلماً، تهمة «الإنعزالية». أما الفصاحة والبلاغة فكان أبرز فرسانها نصري المعلوف وإدوار حنين ولويس أبو شرف وإدمون رزق وخاتشيك بابكيان وبهيج تقي الدين وحسن خالد الرفاعي.

وأما «الساحر» كميل شمعون فلم تكن جعبته لتفرغ من كبير المواقف (الخ...)

وعندما يحين التصويت تنتهي الأمور حبيّة، فلا أحقاد ولا ضغائن. وإن واجهت الحكومة صعوبة فلم يكن متعذراً على رئيس المجلس صبري حمادة ان يمرّر «صُدِّق» بالتي هي أحسن.

رحمهم اللّه... كانوا (وكثيرون سواهم) منارات الزمن الجميل.