لبنان بلد العجائب والقديسين، بلد الانبياء والصالحين، لبنان بلد الشهداء والصديقين، لبنان بلد ترابه طاهر ومغمس بدماء وعرق الشرفاء لا يستأهل ان يفعل به ما يفعل. وشعبه الصابر والصامد الذي قاوم كل الاحتلالات والانتدابات والاجتياحات وخرج منتصراً. لبنان وشعبه نشرا الحرف والحضارة ونقشا على كل جدار في بلاد الاغتراب وتحت كل صخرة في ارجاء المعلومة أثرًا للبناني.

لبنان الواقع والتاريخ والجغرافيا ليس نفسه هذا "اللبنان" الذي نعيش فيه اليوم. فهذا "اللبنان" تسيطر عليه طبقة سياسية منذ العام 1992 كانت تحكم بوهج الوجود السوري، وعاثت فساداً مع رموز فاسدين من هذا النظام. وانقلبت عليه بعد العام 2005 عندما مالت الدفة الدولية ضدها وصاروا كلهم طلاب "استقلال وسيادة وعنفوان وطني". من هؤلاء "الرئيس الابدي" للحكومات المتعاقبة فؤاد السنيورة والذي يحضر طيفه في كل شيء. من مصرف لبنان الى الموازنات واوجيرو الى تعطيل مراسيم النفط وشركات الخلوي الى الـ11 ملياراً الضائعة والتي لا اثر لها منذ العام 2006 ولا "من شاف ولا من دري". وقبل الخوض في اي موازنة جديدة لا يمكن القفز عن المحاسبة لكل من تعاقب على الحكومات الماضية، ورغم ان الرئيس سعد الحريري حكم في السراي في العام 2009 وبعده الرئيس نجيب ميقاتي في العام 2011، الا ان وهج وطيف وحضور وهندسة السنيورة كانت حاضرة ومنقوشة، في كل بند مالي وحكومي واقتصادي الى سندات الخزينة واليوروبوند واسهم سوليدير وخدمة الدين العام، وصولاً الى الهندسات المالية التي يقودها اليوم حاكم المصرف المركزي رياض سلامة.

ما يجري من نقاشات لفذلكة ​الموازنة​ الحالية وفي عهد جديد يقوده الرئيس ميشال عون وبتحالف واضح ودعم ثابت من "الثنائي الشيعي"، لا يجب ان يخرج عن إطار تكريس مبدأ المحاسبة والمكاشفة ومكافحة الفساد والهدر. قد لا تكون هناك عصا سحرية او كبسة زر تنقلنا من "دولة فاشلة" مالياً وسياسياً واقتصادياً وعاجزة ومديونة ومفلسة ومرهونة بحجارتها وبعض بشرها الى الممولين الغربيين والخليجيين والبنوك المحلية والدولية، الى دولة تحترم نفسها وتحافظ على ماء وجهها.

بالامس سمعنا عن عميد متقاعد حكم عليه بالسجن لخمسة اعوام ومع شركاء من غير السياسيين والرؤوس الكبيرة ومن كان يقف وراءه، و"طلعت براسو" وختم الملف واودع الرجل في السجن لاكمال ما تبقى من عقوبته. وبالامس القريب اقيل مدير عام من منصبه لكنه

بقي بتصرف مرجعيته السياسية فالاقالة اتت على خلفية ملف الانترنت وفضيحته المدوية. وقد ثبت ان الرجل المذكور متورط في الملف العنكبوتي ومشبّك على اليافه الضوئية. لكن القضاء لم يتحرك ولم يعد احد يتحدث في ما فعله واختفى الرجل وكأن شيئاً لم يكن.

وقبلهما اثيرت قضية الـ11 مليارًا التي اختفت في عهد حكومات السنيورة وفقد اثرها وليس لها قطع حساب واليوم تجرى نقاشات للموزانة الجديدة. وهي مناسبة لفتح كل الملفات الماضية على اعتبار ان القاعدة الاثني عشرية كانت تحكم الصرف والانفاق الحكومي.

سلسلة الرتب والرواتب للاساتذة الحاليين والمتعاقدين وللعسكريين تدور ايضاً في حلقة مفرغة منذ خمس سنوات وحتى الآن لم تبصر النور. وفي هذا السياق يخوض بعض اهل السلطة معركة ابتزاز واضحة فإما ان لا تقر السلسلة او تقر بعد فرض ضرائب جديدة تطال الفقراء والمعدمين وبعدهم بدرجة اصحاب الدخل المحدود، فيما خرجت كل قطاعات الاقتصاد اللبناني من التجار الى العقاريين والمصرفيين لتندب "قساوة" هذه الضرائب. في حين تبقى المساءلة ومحاربة الفساد ووقف الهدر في مكان آخر تماماً لا يمت الى الواقع الحالي بصلة وكأن الحكومة واطرافها في مكان وما يفترض ان تقوم به هذه الحكومة من "هندسة" مالية في مكان آخر.

في خطاب القسم والبيان الوزاري قرأ اللبنانيون خطوطاً عريضة وتعهدات اقتصادية وعلى اساسها انطلقت عجلة الحكم الحالية، لكننا حتى الآن لم نر اية خطوط عريضة او ضيقة لخطة مالية او استراتيجية اقتصادية واضحة وبناءة تنقلنا من مصاف الدولة الفاشلة التي تعيش بالستروبيا والصدفة الى دولة تخطط وتكافح وباء الفساد والهدر والمحسوبيات.

موازنة هذا العام فرصة لن تتكرر لان يأخذ العهد الجديد لبنان الى مكان جميل وصفه في خطاب قسمه الرئيس عون ولا شك انه رجل صادق وشفاف ولا عجب ان ووجه باتهامات في الايام المئة الاولى من ولايته الرئاسية. هي فرصة لن تتكرر وكي لا يكون عون نفسه الرجل الذي يأمل منه اللبنانيون ان يكون رجل اصلاح وتغيير حقيقي وان يترك بصمة فؤاد شهاب على الدولة المؤسساتية الحديثة فعليه ان يبدأ اولاً بـ"نفض" الساحة من حوله وصولاً الى المعاملة بالمثل مع كل فاسد ومرتش وهادر للمال العام. وعلى الشعب مسؤولية ايضاً ان يقوم بدوره في المحاسبة والمساءلة وان لا يهول عليه ويمننه بعض الساسة الذين اصابتهم التخمة لكثرة ما اكلوا وشربوا على ظهورنا.