جاء الرئيس الفلسطيني إلى لبنان. سبق كلَّ الرؤساء العرب للقاء الرئيس ميشال عون في القصر. وفي تفكيره أنّ الصفقة ممكنة في عهد ضابط له صولاتٌ وجولات عسكرية في مواجهة المعسكرات الفلسطينية، بدءاً بمخيّم تل الزعتر في بدايات الحرب الأهلية. ولكن، تبيّنَ بعد 42 عاماً أنّ المقاييس انقلبَت، مقاييس الفلسطينيين واللبنانيين، وتبدّلت الأولويات لدى الجميع!

عام 1987، ألغى المجلس النيابي اتفاقَ القاهرة. وهكذا، فالسلاح الفلسطيني الذي كان يتصادم مع لبنانيين أصبحت وظيفته التصادم بين الفلسطينيين أنفسِهم. كان الصِدام بين المخيّمات وخارجها، فبات داخل المخيّمات. وفي الحالين، وظيفة هذا السلاح في مواجهة إسرائيل كانت قد انتهت قبل ذلك بوقتٍ طويل.

وقام السوريون، خلال سيطرتهم على لبنان، باستثمار التناقضات داخل المخيّمات وخارجها والضياعِ الكامل الذي يمرّ به الفلسطينيون، فـ«صادروا» الحالة الفلسطينية، بالإخضاع تارةً والخرقِ تارةً أخرى. وما زالت هذه الحالة مصادَرة حتى اليوم. وسيناريو حرب البارد، بانطلاقها وانتهائها، يؤكّد الشبهات.

مشكلة السلطة الفلسطينية أنّها كانت دائماً عاجزة: لا هي قادرة على الإمساك بقرار المخيّمات، ولا هي قادرة على دعوة لبنان إلى دخولها ونزعِ سلاحِها وتقديم التغطية اللازمة، لسببَين:

1 - بقيَت هذه السلطة تنظر إلى المخيّمات باعتبارها مناطقَ نفوذ فلسطيني لها خصوصيتُها. فما قاتلَ مِن أجله ياسر عرفات منذ مطلع السبعينات، ليس سهلاً على الذاكرة الفلسطينية أن تتخلّى عنه. وفي حرب البارد بَرز هذا الاتجاه أيضاً.

2 - لو اتّخذت هذه السلطة قراراً بتسليم المخيّمات للسلطة اللبنانية، فإنّها ستواجَه بالرفض من داخل المخيّمات، وسيكون ذلك ذريعةً لدى معارضي محمود عبّاس لشنّ حملةٍ عليه وإضعافه تحت عنوان «التخلّي عن مكسب الاستقلال الذاتي الفلسطيني في المخيّمات».

سبقَ أن قام عباس بأربع زيارات للبنان. في آخر 2004، جاء بوصفه رئيسَ اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير. وفي تمّوز 2005، جاء بوصفه رئيساً للسلطة. وتكرّرت الزيارة للبنان في 2007 إبّان حرب البارد، ثمّ في 2013.

بين الزيارتين الأخيرتين، حاوَل عباس تدويرَ الزوايا لعلّ ذلك ينقِذ الوضع. ففي 2011، كلّف مدير المخابرات الفلسطينية اللواء ماجد فرج المجيءَ إلى لبنان، وتنفيذَ خطة تقضي بجمعِ السلاح الفلسطيني في المخيّمات وضبطِه.

وقضَت الخطة بوضع السلاح في يد جهاز الشرطة الفلسطينية الذي يجري إنشاؤه داخل المخيّمات بدمج الوحدات العسكرية العاملة في «فتح»، وهي الأمن الوطني الفلسطيني (العميد صبحي أبو عرب الذي يقود الشرطة بعد ترقيته إلى رتبة لواء) وقيادة المقرّ العام (اللواء منير المقدح) والكفاح المسلّح (العقيد محمود عيسى- «اللينو» الذي يكون مساعداً لأبو عرب).

وجاء فرج إلى بيروت، والتقى الثلاثة، في حضور السفير عزام الأحمد الذي كُلِّف التنسيق. لكنّ الخلافات على القيادة بين أركان «فتح» في عين الحلوة، والشكوك التي راودت «حماس» وفصائل أخرى حول أهداف هذه الخطوة، أدّت إلى تعطيلها.

وبقيَ الأمن اللبناني يرصد ما يجري داخل عين الحلوة بـ«الريموت كونترول»، أي بالتنسيق بين الأجهزة اللبنانية والقيادة السياسية الفلسطينية الموحّدة واللجنة الأمنية العليا. لكنّ أجزاء من المخيّم باتت عصيّة على الأمن الفلسطيني والأمن اللبناني معاً. وهذا ما ينذِر بالأسوأ، وقد دفعَ الجيشَ العام الفائت إلى المباشرة في الجدار الوقائي.

وهذه التطوّرات تُواكبها متغيّرات دولية وإقليمية تخشى السلطة أن تؤدّي إلى تصفية الملفّ الفلسطيني، ولا سيّما لجهة القضاء على حلّ الدولتين، فيما «الأونروا» تسلك الطريق نحو التلاشي، ما يعني تذويبَ الخصوصية الفلسطينية، أي الحق في العودة.

وتتحدّث التقارير من واشنطن عن أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتجاهل اتصالات عباس، عمداً، منذ تولّيه منصبَ الرئاسة. وأوردت «أسوشييتدبرس» أنّ عباس ورجاله يحاولون التواصلَ عبر توجيه الرسائل عبثاً مع ترامب ومساعديه، ما يوحي بنيّةِ الإدارة الأميركية تبريدَ العلاقات معه ويعني توجيه ضربة قوية للسلطة الفلسطينية.

ويزيد المخاوفَ أنّ ترامب يوثّق علاقاته برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وثمّة خطوات ينتظرها الإسرائيليون: دعمُ الاعتراف بالقدس عاصمةً لهم، دعم توسيع المستوطنات وتسويق تسوية تؤدي إلى تصفية حلّ الدولتين والحقّ في العودة. لذلك، جاء عباس إلى لبنان طالباً من حكومته أن تسعى لدى الإدارة الأميركية لتبديل سياستها. فلبنان سيكون المتضرّرَ الأوّل منها، لأنّ إنهاء الحق في العودة سيكرِّس التوطين.

أوحت زيارة عباس بأنه يأتي هذه المرّة إلى لبنان ليلعب «صولد»، فلا شيء لديه يخشى خسارتَه بعد اليوم: فلتان في المخيمات يجعلها خارج سيطرة السلطة، ومخاوف من تصفية الحلّ السياسي للملف الفلسطيني.

لذلك، وللمرّة الأولى، كشفَ عباس في زيارته الأخيرة أنّ السلطة مستعدّة تماماً للتخلّي عن السلاح، وقال: «من حقّ الحكومة اللبنانية أن تسحبَ السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها، فنحن في حماية الجيش اللبناني، ولذلك، لسنا في حاجة إلى سلاح».

لقد ألقى عباس الكرةَ في الملعب اللبناني، ولكن هل لبنان مستعدّ لتلقُّفِها؟

عرضُ عباس يقول بالمقايضة الآتية: فليوقِف لبنان سياسة عزلِ عين الحلوة، وليتسلّم أمنَ المخيّمات تماماً، مقابل تطبيع واقعِهم الاجتماعي والإنساني. فالسلاح صار عبئاً ثقيلاً علينا، ولا يؤدي إلّا إلى التصفيات المحلّية في الزواريب. وهو يستثير الحساسيات مع اللبنانيين.

ولكن، هل اللبنانيون في صَدد تلقّفِ هذه القنبلة؟ فكيف يمكن للأمن اللبناني أن يتسلّم سلاح عين الحلوة وسائر المخيّمات، وقد تحوّلت بؤراً تتغلغل فيها الخلايا الإرهابية والخارجون على القانون؟

في عبارةٍ أخرى، هل ما يقوله عباس يمثّل فعلاً كلّ الفصائل والقوى الفلسطينية، بما فيها المحسوبة على «فتح»؟ وتالياً، هل لبنان مستعدّ- بالاستعدادات والتوقيت- لتجربة مكلفة كنهر البارد؟

يبدو أنّ لبنان سيفكّر طويلاً في هذا العرض. والأرجح أنه لن يقبل به إلّا إذا تمّت تغطيته تماماً داخلياً وإقليمياً ودولياً. وحتى ذلك الحين، يدفع الفلسطينيون ثمناً غالياً لتحوُّلِ فصائلِهم منذ نصف قرن أدوات للصراعات والمصالح، ومِثلهم اللبنانيون...