في كانون الأوّل الماضي، تعرّضت كاتدرائيّة القديس مرقس في القاهرة لتفجير إرهابي أسفر عن سُقوط نحو 30 قتيلاً وجرح أكثر من ثلاثين آخرين، علمًا أنّ إستهداف ​الأقباط​ في مصر(1)باعتداءات غادرة ليس بجديد. لكن ما تعرّض له الأقباط في منطقة العريش في ​سيناء​ خلال الأسابيع القليلة الماضية يفتح صفحة جديدة في نوعية هذه الإعتداءات، حيث أنّ الأمر ليس عبارة عن عمل إرهابي محصور في الزمان أو المكان، بل عبارة عن مُحاولات مفضوحة ومُمنهجة لتهجير مسيحيّي مصر، عبر حملة قتل بالرصاص وذبح بالسواطير وحتى حرق بمواد قابلة للإشتعال السريع طالت عددًا كبيرًا من الأبرياء العُزّل من النساء والرجال على السواء، ولم توفّر لا الكهول ولا الأطفال.

بالنسبة إلى الجهة المسؤولة عمّا حدث ويحدث، وإذا كان صحيحًا أنّ تنظيم "داعش" الإرهابي أعلن في أكثر من بيان وشريط مصوّر مسؤوليّته عن هذه الجرائم الوحشية والغادرة بحقّ الأقباط، وعن التهديدات المُتعدّدة بحقّ المسيحيّين المصريّين عُمومًا، فإنّ الأصح أن ما حصل ويحصل يتمّ ضُمن بيئة حاضنة ولوّ بشكل جزئي. فالضحايا الآمنين الذين إستهدفوا خلال الأسابيع القليلة الماضية، كانوا يُنتقون بعناية من بين الكثيرين، والغريب أنّ المُنفّذين كانوا ينجحون بالفرار بسهولة على الرغم من تنفيذ بعض الجرائم في وضح النهار وبين عشرات المارّة، ما يدلّ على أنّ هؤلاء يعرفون سكان المنطقة ودياناتهم، ويحظون بتسهيلات لوجستيّة وبدعم من بعض السكّان لتسهيل الفرار والإختباء.

بالنسبة إلى الموقف الرسمي المصري، فهو تضمّن الكثير من التصريحات التي تُدين الهجمات وتدعم الضحايا وتدعو إلى تسهيل أمور النازحين، والتي تعد أيضًا بتنفيذ حملة أمنيّة للقضاء على الإرهابيّين في سيناء، خاصة في المنطقة الشمالية منها. وقد حاولت الكنيسة القبطية بدورها تخفيف الإحتقان وإبعاد شبح الإنقسام عن الشارع المصري، عبر الإعلان في بياناتها أنّ مُنفذي الهجمات الإرهابيّة هم من خارج المنطقة، وأكّدت على الوحدة الوطنيّة المصريّة ضُدّ الإرهاب، وعلى حماية الدولة لكل أبنائها. لكنّ غياب الإجراءات العسكريّة الحاسمة والفعّالة والسريعة، والشكّ بتواطؤ جزء من السُكّان مع الإرهابيّين، دفع مئات العائلات والطلاّب في العريش في سيناء إلى مُغادرة المنطقة خوفًا على حياتهم.

بالنسبة إلى ما يُحكى عن عزم الأقباط تطبيق سياسة "أمن ذاتي" في أماكن تواجدهم، وما يُحكى عن أسلحة مُخبّأة في مخازن سرّية أسفل الكنائس في مناطق ذات الكثافة السُكّانية المسيحيّة في مصر، فإنّها كلّها تدخل في سياق الإشاعات المُغرضة بحسب تأكيدات الكنيسة الأرثوذكسيّة القبطيّة، في محاولة من جهات مُتعصّبة لتبرير التعرّض للمسيحيّين. تذكير أنّ العلاقة مع الأقباط في مصر تشهد بين الحين والآخر توتّرًا من قبل جهات مُتعصّبة ضمن المُجتمع المصري، مع تسجيل العديد من حوادث الإصطدام على خلفيّات طائفية بين الأقباط والمُسلمين، ومع تسجيل إنحياز لقوى الأمن المصريّة ضُد الأقباط في أكثر من حادث(2)، حيث جرى مثلاً التباطؤ في التعامل مع حالات حرق لعشرات منازل ومتاجر الأقباط في كثير من المُواجهات التي إندلعت لأسباب ثانوية جدًا، والتراخي في إعتقال مُهاجمي الأقباط وفي فرض إجراءات رادعة بحقّهم، وفرض السُلطات الرسميّة تسويات ومُصالحات على حسابهم في بعض الأحيان، إلخ... وفي كثير من المُواجهات الطائفية في مصر، جرى تنفيذ مُداهمات لمنازل الأقباط ولغيرها من الأماكن التابعة لهم، بحجّة البحث عن أسلحة مُخبّأة، من دون العُثور على أيّ شيء يُذكر. وحتى اليوم، ومع الإعتداءات الإجرامية الجديدة التي يتعرّض لها هؤلاء في العريش في سيناء، فإنّهم يرفضون اللجوء إلى أيّ شكل من أشكال الحماية الذاتية، ويتمسّكون بحماية الدولة لهم.

في الختام، صحيح أنّ مسيحيّي لُبنان يُشكّلون رمزًا معنويًا لكل مسيحيّي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كونهم يحظون بأعلى منصب رسمي على مُستوى مختلف الدول العربيّة، وكونهم يُطبّقون حريّة واضحة على مُستوى الفكر والمُمارسة ونمط الحياة، لكنّ الأصحّ أنّ مسيحيّي مصر يُمثّلون الثقل العددي للمسيحيّين على مُستوى المنطقة العربيّة ككل. وبالنسبة إلى الأسلوب الأجدى للتعامل مع حملة الإضطهاد والإجرام الجديدة التي يتعرّض لها أقباط مصر، قد يكون من الضروري أن يقف المُسلمون المُعتدلون في مصر إلى جانب مسيحيّيها، ومن الضروري أن تتعامل الدولة المصريّة بجدّية أكبر إزاء ما يحدث وبحزم أكبر ضُدّ الإرهابيّين، لأنّ ما يحصل ضُدّ الأقباط حاليًا يهدف إلى التهجير، بعد تهجير الجزء الأكبر من مسيحيّي العراق وسوريا، وبعد هجرة مسيحيّي فلسطين والأردن الطوعيّة، مع الإشارة إلى أنّ مسيحيّي الشرق الأوسط يُشكّلون حاليًا أقل من 5 % من إجمالي سكُان المنطقة بعد أن كانوا يُمثّلون نحو 20 % مطلع القرن العشرين الماضي!

(1)يُقدّر عدد أقباط مصربما بين 8 إلى 10 ملايين شخص، إضافة إلى نحو 4 ملايين في دول الإغتراب.

(2) بدءًا بحادث الزاوية الحمراء عام 1981، مُرورًا بحادث الكشح عام 2001، وُصولاً إلى قضيّة السيّدة سعاد ثابت في أيّار 2016 الماضي.