في 23 من نيسان المقبل، تبدأ مرحلة الحسم ويتوجه الفرنسيون الى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس جديد لهم خلفاً للرئيس الحالي ​فرنسوا هولاند​. مفارقات كثيرة تحملها الانتخابات المقبلة، واولها طبعاً اعلان هولاند عدم الترشح مجدداً، وهي سابقة في تاريخ فرنسا المعاصر، ولكن من يلقي نظرة الى شعبية الرئيس الفرنسي يدرك سريعاً سبب انكفائه عن الترشّح ويعلم تماماً ان المعركة خاسرة ولا حاجة الى خوضها وزيادة المصيبة.

وغني عن القول ان فرنسا في عهد هولاند عرفت سقوطاً مدوّياً فاستمرت مسيرة الانحدار السياسي والاقتصادي بعد مغادرة ​نيكولا ساركوزي​، ولكن الاهم انها شهدت اهتزازاً امنياً غير مسبوق ابعد الفرنسيين عن رئيسهم بشكل قاطع. اليوم، تتزايد المخاوف في المنطقة مما سيقدم عليه الفرنسيون في نيسان المقبل، وانهم قد يلجأون، على غرار الاميركيين، الى انتخاب شخص من المتطرفين اليساريين او اليمينيين ينسف مفهوم فرنسا التي اعتاد عليها العالم عموماً واوروبا بشكل خاص، ويقدّم صورة جديدة مغايرة تكشّر فيها باريس عن انيابها في وجه المهاجرين مع خوف من استهداف المسلمين.

وفي هذا السياق، يخيّم شبح ترامب على اوروبا، ويعيش الاوروبيون هاجس الانتخابات الفرنسية كونها المحطة الاولى التي قد توضح الصورة التي ستكون عليها القارة العجوز في المستقبل القريب. منطقياً، تبدو الشكوك والمخاوف محقة، في ظل تنامي العوامل التي تفضي الى اعتماد خيار التيارات المتطرفة سياسياً، كما ان استطلاعات الرأي والكبت الموجود لدى الاوروبيين بفعل ما تعرضوا له من ارهاب وتهديدات من شأنه ان يجنح بهم نحو خيارات لم يفكروا بها سابقاً، ولكن...

من الجدير ربما اخذ بعض الامور الاخرى في الاعتبار، وهي ان حال الانقسام في فرنسا تختلف بشكل كبير عن تلك التي عاشتها اميركا، فالفرنسيون امام 5 خيارات للرئاسة، فيما كان الاميركيون امام اثنين فقط، وحتى بعد وصول اثنين من المرشحين الى المرحلة الثانية الرئاسية (في حال لم تسفر المرحلة الاولى عن فوز اي من المرشحين بنسبة اكثر من 50 في المئة، وهو الامر المتوقع)، لن تكون باقي المؤسسات على غرار الرئاسة، حيث ان الحكومة ومجلس النواب سيكونان مقسمين بشكل اوسع واكبر وسيتكتل فيهما تيارات وشخصيات فاعلة في كل الاحزاب الرئيسية.

اضافة الى ذلك، ورغم كل ما يحصل، تعيش اوروبا هاجس وحدتها، في ظل الخروج البريطاني الذي بات قريباً، والذي القى بظلال من الخوف على الاوروبيين الذين كانوا يأملون ان تكون وحدتهم مصدر خلاص لهم وليس مصدر قلق. ومخطىء من يعتقد ان البريطانيين مرتاحون لنتيجة الاستفتاء الذي حصل، فالانقسام كان شبه مناصفة وبالتالي هناك شريحة كبيرة جداً لا تزال تجد انه من المبكر الانفصال عن اوروبا على الصعد الاقتصادية والمالية والتي ستمهد لابتعاد سياسي وعسكري ربما في مرحلة لاحقة. وتجسيد هذا الخوف تمثل بالكلام عن ارجاء زيارة الرئيس الاميركي الى بريطانيا من حزيران المقبل الى تشرين الاول ريثما تهدأ الامور في بريطانيا ويتقبّل المواطنون اكثر فأكثر فكرة تواجد ترامب بينهم.

وقد اظهرت التطورات على الصعيد الانتخابي في فرنسا ان "تهميش" المرشحين يشق طريقه بثبات وقوة، بحيث قد يصل الى الرئاسة اقوى الضعفاء بعد ان تكون الحملات والاتهامات والتحالفات السياسية قد انهكت الرئيس العتيد الذي سيلجا حتماً الى مد يده للجميع من اجل الانطلاق بزخم، وهو امر يوجب عليه بالتالي تقديم تنازلات قد تكون في مكان ما مؤلمة له.

واذا كانت المعطيات السياسية والعسكرية والاجتماعية تتغيّر مع الوقت، فإن العامل الجغرافي يبقى ثابتاً، وبالتالي لا يمكن لاوروبا اغفال انها لن تبتعد جغرافياً عن منطقة الشرق الاوسط مع كل ما تحمله هذه المنطقة من سلبيات وبعض الايجابيات، وان تأثير ما يحدث يطالها بشكل اسرع بكثير مما يطال الولايات المتحدة او الدول الاكثر بعداً، ولا يمكن عزل نفسها عنها او بناء جدار حدودي كاف لابقائها بأمان.