مع إغلاق مرحلة جديدة من الحرب على "داعش" ينتظر الجميع كلمة السر الأميركية لرسم الخطوط الحمر الجديدة في المنطقة العربية. ويبدو أن جلاء السر الأميركي سيتأخر لوقت من المرجح أن يطول، بسبب استمرار مفاعيل الفترة الانتقالية التي حتمتها عملية نقل السلطة بين الرئيس الأميركي السابق ​باراك أوباما​، الذي كان وقبل نهاية ولايته بطّة عرجاء فيما يختص بالحرب على سوريا وفيها، وبين الرئيس ​دونالد ترامب​ الذي إلى اليوم تبقى إدارته للملفات الخارجية المؤجلة لغزاً يحير الجميع.

ميدانياً، بات من الواضح توزع القوى في الميدانين السوري والعراقي. الجيش السوري استعاد تدمر، ويعزز مواقعه وسط البلاد وفي حلب وريفها، وصولاً إلى مدينة الباب حيث التواجد العسكري التركي. الأميركيون في مبنج ضمانة للأكراد مقابل عدم تواصل مناطق نفوذهم. القوات العراقية بتقدمها إلى داخل الموصل، وقطع طريق تلّعفر قطعت طريق "داعش" بين شقيه السوري والعراقي. وفي الميدان السوري خفَّت الضغوط عن الروس والإيرانيين بصورة لافتة، النظام في دمشق لم يعد مهدداً عسكرياً، ويحقق بالمصالحات المحلية ما لم يتيسر تحقيقه بالعمليات العسكرية. ودمشق بطريقها لأن تصبح أكثر اقناعاً للعالم بجدوى الحرب التي تشنها على الإرهاب، وهناك حديث جدي عن ضرورة استعادة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية.

وسياسياً، نجحت موسكو في جمع المعارضات بمختلف أطيافها، الموحدة و"المنصاتية" في استانة وبعدها في جنيف مع حضور أميركي خجول، بعدما توصلت سابقاً إلى إعلان أول وقف معقول لإطلاق النار. وهناك احتمالات لها حظ كبير في أن تجمع إلى طاولة المفاوضات في جنيف بعد أيام وفود المعارضة والحكومة في جلسة مشتركة، ليكون ذلك أول خرق سياسي فعلي في مسار الحرب منذ نحو ستة أعوام.

ميدانياً وسياسياً دخل الواقع السوري مرحلة المراوحة بانتظار العصف الذهني للدول الكبرى لتقرر كيف تنهي الحرب على "داعش" والحفاظ على توازنات المنطقة سياسياٌ وعسكرياً ضمن حدود الدول المتعارف عليها وبما يحفظ وحدتها وسيادتها وتعدديتها. وبالنسبة للإدارة الأميركية يبقى الثابت الوحيد غير مصلحة إسرائيل، هو القضاء على "داعش" بحسب ما هو معلن. أما التعاطي مع إيران فمؤجل بدوره إلى تحديد مستويات التنسيق والتباعد والتقارب مع موسكو بخصوص الملف النووي وغيره من الملفات.

الأولوية الأميركية في القضاء على "داعش" في طريقها إلى التحقق بحسب المعطيات الميدانية الأخيرة. ورحّبت موسكو ودمشق أكثر من مرّة بهذا التوجّه الأميركي وأعلنتا رغبتهما في بلورة آليّة لتحقيق ذلك. لا بل جرى تنسيق روسي أميركيّ في تحديد بعض الأهداف وضربها.

خطر "داعش" ليس في حجم سيطرته على الأرض والآيل إلى السقوط. خطره الأكبر في قدرته على الانسحاب من الميادين الذي غزاها وإعادة التموضع في مخابئ ومواقع حول العالم، تجعل من مدن الشرق والغرب اهدافاً سهلة لانتحارييه المفخخين أو لسائقي الشاحنات وغيرها من أدوات القتل المستحدثة. من هنا ضرورة التنسيق الأمني والمعلوماتي بين الدول المعنية بالحرب على الإرهاب من تركيا إلى ​روسيا​ وإيران، مروراً بأوروبا وأميركا والدول العربية والإسلامية. تعاون مفتوح كهذا لا يكتمل من دون دور فعلي لواشنطن بحكم مونتها على حلفائها في المنطقة والذي ساهموا وللاسف في تمدد "داعش" وغيره من التنظيمات الإرهابية.

لكن الإدارة الأميركية تتباطأ في اعتماد مبادرة حاسمة في هذا الخصوص نظراً لتعثّر انطلاقة دونالد ترامب الرئاسية بسبب الفضائح اليومية التي تلاحقه، وآخرها اتّهام وزير العدل جف سيشنز بالكذب تحت القسم عندما نفى أن يكون تواصل مع مسؤولين روس خلال الحملة الانتخابية الرئاسية. التباطؤ الأميركي يطيل عمر "داعش"، وفي الوقت نفسه يتيح للقوى المحلية تعزيز فرص فرض رؤيتها الوطنية للحل.

نهاية "داعش" في سوريا والعراق باتت وشيكة. والمسألة الآن أي دولة ستظهر في كل من البلدين في المرحلة اللاحقة؟ من الصعب الإجابة على هذا السؤال قبل بلورة السياسة الخارجية الأميركية. وإلى أن يحين موعد الكشف عن السر الأميركي تبقى كل الاحتمالات واردة، ومن بينها إقامة مناطق آمنة ترسخ الفرز السكاني وبالتالي التقسيم، وهذا بالتأكيد أخطر من الحرب الحالية، ومقدمة لحروب لن تنتهي.