مع بداية عهد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، كان واضحًا حرص الرجل على إصلاح العلاقات التي توتّرت في ظلّ الحكومة السابقة مع دول ​مجلس التعاون الخليجي​، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي خصّها بزيارته الخارجيّة الأولى، والتي انتهت بوعودٍ وتبشيراتٍ لم تترجم بعد على أرض الواقع.

ولكن، خلال الأيام القليلة الماضية، طرأت بعض التطورات التي أوحت بأنّ الأمور عادت إلى نقطة الصفر، سواء لجهة ما تسرّب، عن حسن أو سوء نيّة، عن إلغاء الملك السعودي ​سلمان بن عبد العزيز​ زيارة كان ينوي القيام بها إلى لبنان، أو لجهة ما حُكي عن استدعاء السلطات الإماراتية لسفير لبنان في أبو ظبي.

فما الهدف من مثل هذه التسريبات وما مدى دقّتها؟ وإلى أين تتجه العلاقات اللبنانية الخليجية عمومًا، واللبنانية السعودية خصوصًا، في ضوء كلّ هذه التطوّرات؟

مفارقة ملفتة...

في جملة ما قيل خلال اليومين الماضيين على خلفية عودة التوتّر إلى العلاقات اللبنانية الخليجية أنّ ما نجح الرئيس عون بتحقيقه مع السعودية في مستهلّ عهده، عاد و"خربه" بنفسه، عندما دافع عن "حزب الله" وسلاحه.

واستهجن أصحاب هذه النظريّة كيف يطلب رئيس الجمهورية من جهة تفعيل الهبة السعودية للجيش اللبناني، على سبيل المثال، ويعلن من جهة أخرى دعمه لجهةٍ غير رسمية في مواجهة إسرائيل، باعتبار أنّ الجيش غير قادرٍ بمفرده على القيام بمثل هذه المهمّة. إلا أنّ آخرين ذهبوا لحدّ القول أنّ الرئيس "دُفِع دفعًا" من قبل إيران للإدلاء بما أدلى به لتخريب العلاقة مع السعودية، وقيل في هذا السياق أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله هو من طلب شخصيًا من الرئيس عون الخروج بمثل هذا الموقف العلنيّ، بحُجّةٍ مقنعةٍ ظاهريًا ألا وهي إظهار تقاطعٍ بين موقف الدولة والمقاومة من التهديدات الإسرائيلية.

ولكن، وبمعزلٍ عن حقيقة الدوافع والحوافز، يبقى الثابت والأكيد أنّ مواقف رئيس الجمهورية ليست جديدة، بل تعود لما قبل زيارة الرئيس عون إلى مصر، ولم تُقابَل سوى بالصمت في الأروقة الخليجية، ولا سيما الدبلوماسية منها، ولم يصدر أيّ ردّ فعل سعودي أو غير سعودي ممتعضٍ منها، بل إنّ كلّ ما تسرّب بعيد إطلاقها أوحى وكأنّ السعوديين "تفهّموا" مواقف رئيس الجمهورية أو "نأوا" بنفسهم عنها، في أفضل الأحوال. فلماذا إثارة "الزوبعة" حولها اليوم وبالتحديد؟ ومن يقف وراء ذلك؟

قد يكون الجواب "البسيط" على هذا السؤال أنّ "التحفّظ" الخليجي على بند دعم لبنان في مواجهة إسرائيل في مجلس جامعة الدول العربية هو الذي أعاد إحياء النقاش، بمعنى أنّ الخليجيين انتظروا أول استحقاقٍ عربيٍ رسمي لتسجيل موقفهم الممتعض، وأنّ مثل هذا الموقف كان لا بدّ أن يُقابَل برفع السقف داخل لبنان، خصوصًا ممّن سكتوا على مضض على مواقف الرئيس عون، فإذا بهم يجدون "ذريعةً" للتصويب عليها، عنوانها "تهديد العلاقات مع الخليج".

مبالغاتٌ مقصودة...

وبعيدًا عن توقيت الاعتراض السعودي والخليجي على مواقف الرئيس عون، تُطرَح أسئلة متفرّعة كثيرة عن مآل العلاقات بين لبنان والسعودية في القادم من الأيام، فهل تنتهي الزوبعة في أرضها، أم ينتهي شهر العسل الذي فتحه الرئيس عون من قلب الرياض؟ وهل ذهبت فعلاً الوعود السعودية التي حصل عليها الرئيس بفتح صفحة جديدة مع لبنان مع الريح، أم تكتفي الدول الخليجية بالرسائل السياسية التي أوصلتها بشكلٍ أو بآخر؟

قد تكون الأخبار "المضخّمة" التي تسرّبت خلال اليومين الماضيين ترجّح كفّة خيار "التصعيد"، فهي أوحت بشكلٍ واضحٍ لا لبس فيه بأنّ الأمور عادت إلى نقطة الصفر، وأنّ ما اشتكى منه الخليجيّون في ظلّ الحكومة السابقة باتوا يشتكون منه اليوم بشكلٍ أكبر بكثير، كيف لا ومصدره هذه المرّة رئيس الدولة، الذي حظي انتخابه بـ"حفاوةٍ كبيرةٍ" بالنسبة إليهم، لاعتقادهم أنّه سيسلك منهجًا وسطيًا معتدلاً، بعيدًا عن تبنّي خيارات خصومهم، وإن كان جزءاً لا يتجزّأ منهم في السابق.

هكذا، قيل أنّ الملك السعودي ألغى زيارته إلى لبنان، وذهب البعض لحدّ الحديث أنّ مشاريع تعيين سفيرٍ سعوديٍ أصيل في لبنان تجمّدت، وأنّ أوامر صدرت بوقف تحريك العلاقات التجارية والسياحية بين لبنان والسعودية، على الأقلّ بانتظار معاينة الموقف اللبناني في القمّة العربية المرتقبة، والتي ستشكّل تحديًا جوهريًا للحكومة اللبنانية، الذي قد لا تكون بدعة "النأي بالنفس" الحلّ الأنجع في مقاربته.

إلا أنّ أيّ مراقبٍ لا يتكبّد عناءً كبيرًا لإدراك أنّ ما قيل ينطوي على "مبالغاتٍ واضحة"، وإن كانت مقصودة ربما، في إطار الرسائل المتبادلة بين الدول. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ زيارة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز لم يحدَّد موعدها بشكلٍ رسمي حتى يُقال أنّها ألغيت كما حصل، علمًا أنّ أيّ شيءٍ من هذا القبيل لم يرد إلى دوائر القصر الجمهوري، التي حرصت في الساعات الماضية على تسريب أجواء معاكسة، مستندةً إلى أنّ تأكيد نيّة العاهل السعودي بتلبية الدعوة اللبنانية أتى أصلاً بعد مواقف رئيس الجمهورية وليس قبلها، ولذلك دلالة واضحة لا يمكن القفز فوقها، علمًا أنّ العارفين يؤكدون أنّ الملك السعودي لا يمكن أن يقوم بزيارةٍ من هذا النوع إلا عندما يتيقّن بتوافر مقوّمات نجاحها.

أين مصلحة السعودية؟

لم تعد العلاقة مع دول الخليج إلى نقطة الصفر إذاً، أقلّه حتى الآن، وليس من مصلحة الخليج أصلاً، ولا سيما السعودية، "معاداة" لبنان في مثل هذه المرحلة، وهي التي بات واضحًا أنّها تسعى للعودة إلى ساحته، وتوسيع نفوذها فيها، خصوصًا بعدما انكفأت عن المشهد السوري بشكلٍ واضح.

ولكن، أبعد من كلّ ما قيل ويُقال، يبقى السؤال الكبير، أيّ مصلحةٍ للخليج وللسعودية تحديداً في ما يذهب إليه المغالون في إظهارها على "تناغمٍ" مع إسرائيل، بتأييد التحفّظ على بندٍ تقليدي ينصّ على دعم لبنان، كدولة، في مواجهة التهديدات الإسرائيلية، علمًا أنّ الرئيس عون، في الموقف الذي يُلام عليه، دافع عن حقّ المقاومة في الدفاع عن النفس في المواجهة، لا أكثر ولا أقلّ؟!