لا يختلف إثنان على ان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لم يعد نفسه منذ محاولة الانقلاب الفاشلة التي تعرض لها في تموز من العام الفائت. انقلب الرجل 180 درجة، وباتت مواقفه اقرب الى التحدي بعد ان تخلى عن الدبلوماسية بشكل تام، وقلب سياسته الخارجية رأساً على عقب.

وقد شكّلت المواجهة الدبلوماسية والسياسية الاخيرة بين تركيا وهولندا باباً جديداً للقلق من احتمالات التصعيد الكبير بين انقرة من جهة، والقارة الاوروبية بشكل عام من جهة ثانية. اليوم، يبدو ان اردوغان وصل الى الحائط المسدود مع اوروبا، لذلك بدأ التلويح بالسلاح الاخير والاخطر الذي يملكه وهو "​النازحون السوريون​"، مهدداً بالانسحاب من الاتفاق الذي عقده مع الاتحاد الاوروبي في 18 آذار من العام الفائت، في شأن الحد من هجرة النازحين الى اوروبا.

بعد يوم واحد فقط، سيصبح عمر هذا الاتفاق سنة واحدة، ولكن ماذا لو نفّذ الرئيس التركي تهديداته وتخلى عنه، فهل سترتعد اوروبا وترجوه اعادة فتح صفحة جديدة؟ في المبدأ، وقّع الاوروبيون هذا الاتفاق خوفاً من النزوح الكثيف الذي شهدته بلادهم عام 2015، بحيث تسرّب الخوف والقلق الى قلب كل اوروبي إثر المشاهد التي تصدرت وسائل الاعلام عن الكمية الكبيرة للنازحين الذين وصلوا اوروبا بطرق غير شرعية، او اقتحموا الحدود او تم ارسالهم من اليونان. ومن المنصف القول انه بعد توقيع الاتفاق الاوروبي مع تركيا، انخفض العدد بشكل كبير جداً لم يتخطَّ بضعة آلاف من اللاجئين الذين تمكنوا من التسلل الى اوروبا. ولكن، يجب النظر الى الامور وفق منظار جديد ومفهوم جديد ايضاً، فقد تغيّرت امور كثيرة منذ سنة وحتى اليوم، اهمها ان الاوروبيين عمدوا الى "تحصين" انفسهم تقريباً من الداخل بعد ان باتت الشعوب الاوروبية اكثر تفهماً للاجراءات المشددة التي تتخذها دولهم لضبط اعداد اللاجئين الذين يدخلون الى اراضيهم. كما ان الاجراءات الحدودية تعززت بشكل كبير، ليس فقط لديها، بل ايضاً في الدول المحيطة بسوريا ومنها الاردن ولبنان والعراق، فيما يتم تضييق الخناق على المنظمات الارهابية في سوريا والعراق عبر حصارها اولاً منعاً لهروب المسلحين الى اماكن اخرى، تمهيداً للقضاء عليها بشكل نهائي.

وهناك سبب آخر يجعل التهديد التركي صعب التنفيذ، ويقضي بأنه في حال اصبحت تركيا منفذاً مفتوحاً للاجئين للتسلل الى اوروبا، فستجتذب الاراضي التركية اعداداً غفيرة من النازحين مع كل ما يعنيه ذلك من معاناة للأمن وللمجتمع هناك، فضلاً طبعاً عن الاوضاع المتردية للاجئين انفسهم على اراض تركية. وهذا الامر من شأنه ايضاً تقويض كل المساعي التي تعلن ادارة اردوغان انها تقوم بها لخلق "منطقة آمنة" تسمح بعودة اللاجئين السوريين الى داخل سوريا، وستضع السلطات التركية في قفص الاتهام حول خرق حقوق الانسان من جهة، وحول مصداقيتها عن حقيقة اهداف توغل قواتها العسكرية الى الاراضي السورية، ويمكن لاوروبا في الحالتين لعب دور سلبي جداً في هذا المجال.

وكما يبدو، فإن الاتفاق الاوروبي-التركي حول النازحين، هو سلاح ذو حدين، لان التخلي عنه يضرّ اوروبا طبعاً، إنما سيعود بضرر اكبر على انقرة وقد يؤدي الى تحالف اوروبي ضدها وضد مصالحها على اكثر من صعيد، وهو امر سيقوّض فرص اردوغان على أعتاب الدستور الجديد الذي يعمل من اجل وضعه ليعطيه الصلاحيات المطلقة التي يرغب فيها لتثبيت سلطته.

ولعل الضحية المؤكدة في هذا التجاذب هم اللاجئون انفسهم، الذين سيكونون عرضة للسرقة من قبل المهرّبين الذين سينشطون بهدف كسب الاموال، وعرضة لتدابير مشددة من قبل الدول الاوروبية التي ستحاول منعهم من دخول اراضيها، فيجدون انفسهم عالقين في دوامة لا تنتهي من المعاناة.