لم تعد قراءة المشهد السوري كسابقه، المتغيرات الكبيرة في السياسة والميدان والسرعة تحكم المسارات رغم أن المجموعات المسلحة، ومن يقف خلفها، تحاول فرملة التقدم أو بحد أدنى ابطاء سرعته، إلا أن الوقائع والمعادلات تفرض عليها مواكبة التطورات، والا فإنها ستواجه جولة جديدة من العنف لن تكون نتائجها أفضل من سابقاتها، لا بل ستخسر المزيد من أوراقها وتضطر للمشاركة في الحل بشروط تناقض خطابها السياسي وتعكس ضعفها في الميدان.

حتى الآن، لم تسلم المعارضة المسلحة بالحل السياسي وهي لا زالت تراهن على تغيّر الموقف الاميركي أو الاتيان بدعم يحسن شروطها، وهي تتكل على الطرف التركي لجلب المزيد من الدعم الذي حصل في الجولة الأولى من مؤتمر آستانة على مدينة الباب، لكن بعد اغلاق الطريق عليه باتجاه الرقّة تشدد في موقفه، وكاد مؤتمر جنيف أن يمرّ دون نتائج لولا التوافق غير المعلن على جدول الأعمال، أما في الجولة الثالثة من "آستانة" تبدّلت الوقائع، حيث لم يحضر وفد المجموعات المسلحة ما يؤكد أن أنقرة غير راضية عن مسار الحل.

"الاستانة" لم يأت بالمسلّحين الا بعد الهزيمة الكبرى لهم في حلب، وهو بمفهومه الحد الفاصل ما بين انضمام المجموعات المسلحة للحلّ السياسي بشروط روسية-سورية، أو استكمال المعركة ضد القوات السورية وحلفائها بلا دعم دولي أو اقليمي، وموقف المعارضة المتردّد بين المشاركة والانتظار. في جنيف أصر وفد الرياض خلال المباحثات مع المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا على رفض بحث مكافحة الارهاب أو إدراجه ضمن نقاط البحث، وهو أمر متعلق في جوهر نظرته للحل في سوريا إذ يرى أن الانتقال السياسي هو من سينهي الارهاب، ورغم ذلك وافق ضمنياً على ادراج مكافحة الارهاب في البنود الثلاثة للمباحثات بعد الضغط الروسي لانجاح المؤتمر، واتهام موسكو للوفد بأنه خارج الواقع، لكن الضغط لم يثمر هذه المرة في جلب المسلحين الى آستانة.

الحدود الفاصلة، أو بمعنى آخر الخيار ما بين السياسة وبين الميدان، ليست مسألة سهلة على المجموعات المسلحة، فالسيناريو الروسي-السوري المقبل هو التعاون ضد جبهة "النصرة" في مناطقها، بالاضافة الى اجبارها على وقف اطلاق النار، بالرغم من شن ​الجيش السوري​ لعمليات عسكرية في الغوطة الشرقية وقصفه بشكل يومي مقرات "النصرة" في ريف ادلب وحماه وحلب. ويدرك المسلحون أن تقدم الجيش السوري في الشرق على حساب تنظيم "داعش" يعني أن المرحلة المقبلة هي بدون هذا التنظيم الإرهابي، وأن الجيش سيكون لديه فائض قوة سيوجهها باتجاه مناطق سيطرة المسلّحين لقتال جبهة "النصرة"، في حين أن هزيمة "داعش"، تشكّل للقوى المناهضة للنظام السوري على أرض المعركة معضلة كبيرة، لأن القوة التي هزمت "داعش" من السهل عليها سحق باقي الفصائل المسلحة.

في الجانب الآخر، فإنّ طَرْح "آستانة" أسئلة حول القبول بالاقاليم وتثبيت خطوط النار، لن يؤدي بأي حال من الأحوال الى فرضها أو تأسيس لما يشبه محميات أو تقسيم متفاهم عليه بناء على اتفاق وقف اطلاق النار، لأن في مندرجاته وبنوده التوصل الى اتفاق بين الجيش والمجموعات المسلحة على محاربة الارهاب، ومن بعدها اتباع سيناريو مشابه للمصالحات التي تجريها دمشق مع المسلحين، بحيث يسلمون أسلحتهم لتسوية أوضاعهم وينضم من يريد الى القوات المسلحة السورية، ولذلك يؤكد مسؤول سوري رفيع المستوى أن هذا المؤتمر لن يفرض مناطق نفوذ للمسلّحين متفق عليها بل هو خطوة وبوابة لهم للعودة الى الدولة والشرعية.

في المعادلة الاقليمية يأتي توقف التركي عند حدود الباب، في وقت تبدو فيه كافة الأطراف متفهمة لوجود القوات التركية في المنطقة الفاصلة ما بين عفرين والحسكة لوقف تمدد المشروع الكردي على كامل الحدود التركية الجنوبية، والتواجد عند الباب هو الحدود الفاصلة للأتراك ولا طريق لهم للمشاركة في معركة الرقّة، بل على العكس أغلقت المنطقة عليهم بتفاهم دولي، قوات روسية-سورية في جنوب وشرق الباب وقوات أميركية في الشمال، ما يعني أن الدور التركي يقتصر على وقف تمدد الكُرد وعلى لعب دور ضامن للمجموعات المسلحة في ادلب.

في هذا السياق يبدو أنّ الخاسر الأكبر في المشهد هو تنظيم "داعش" الارهابي، حيث بات من الواضح وجود قرار دولي مُتّخذ لانهائه، والمعارك الدائرة من العراق الى سوريا تؤكد أن انهياره أصبح وشيكاً، رغم امتداده على مساحات واسعة واتباعه اسلوب حرب العصابات، نظراً إلى الخسائر الكبيرة التي مُني بها وانفصاله التام عن مصادر دعمه وانشغاله في جبهات عدة، بالاضافة الى المعلومات المؤكدة عن فرار أعداد كبيرة من مسؤوليه.

في دمشق، الارتياح واضح لمسار العمليات والمباحثات، والقوات المسلحة تعمل على تجميع وتحشيد أكبر عدد ممكن من عناصر الاحتياط للخدمة الالزامية، حيث تشدد السلطات السورية منذ ما يقارب الشهرين اجراءاتها لادخال الشباب الى الخدمة العسكريّة.