سنتان فصلتا بين الحراك المدني الذي شهدته البلاد سنة 2015 احتجاجًا على أزمة ​النفايات​، وما يمكن تسميته ببوادر الحراك الجديد الذي بدأت البلاد تشهده نهاية الأسبوع الماضي انطلاقاً من الضرائب التي أقرّها مجلس النواب في جلسته الأخيرة.

في المبدأ، يفترض أن تكون هاتان السنتان شكّلتا "استراحة محارب" قيّم خلالها المجتمع المدني التجربة، وأعاد النظر بالأخطاء التي ارتكبها وأدّت إلى أفول الحراك وانتهائه، رغم عدم تحقيقه لأيّ من الأهداف التي كان قد وضعها نصب عينيه.

ولكن، هل تُرجِم هذا المبدأ على أرض الواقع؟ ولماذا اعتبر البعض أنّ مشهد ​ساحة رياض الصلح​ يوم الأحد الماضي لم يكن مبشّرًا، بل على العكس أوحى بأنّ شيئًا لم يتغيّر؟ وهل يمكن الرهان على حراك 2017 ليكون بداية التغيير؟

الأخطاء نفسها...

بدايةً، لا شكّ على الإطلاق بأنّ "الثورة" في لبنان على الطبقة السياسية، بمختلف تلاوينها وتركيباتها، أمرٌ أكثر من منطقي وضروري، لدرجة أنّ تحديد السبب المباشر لمثل هذه "الثورة" يستعصي على كثيرين، نظرًا لتوافر الكثير من الأسباب والدوافع لذلك. فمن أزمة النفايات التي أوقعت الطبقة السياسية البلاد فيها، من دون أيّ تحسّبٍ أو اكتراث، إلى ​قانون الانتخاب​ الذي تسعى لتفصيله على قياسها وتعجز حتى الساعة عن ذلك، مرورًا بالتمديد لنفسها مرّتين، والترويج بأنّ "الثالثة على الطريق"، وصولاً إلى الضرائب الجديدة التي أرادت فرضها على كاهل المواطنين بحجّة سلسلة الرتب والرواتب التي عملت أصلاً على "تطييرها"، تبدو كلّ مقوّمات "الثورة" حاضرة.

لكنّ ما لا شكّ فيه أيضاً هو أنّ لهذه "الثورة" متطلّبات يفترض توافرها، وتجربة 2015 خير دليلٍ على ذلك، فعلى الرغم من أحقية المطالب التي رُفِعت فيها، وعلى الرغم من القمع الذي ووجهت به من جانب القوى السياسية بمؤازرة ​القوى الأمنية​، اصطدمت المجموعات "الثائرة" بحائطٍ مسدودٍ، ليس لأنها تعرّضت لـ"مؤامرة كونية" كما يحلو لبعضها القول، ولكن، لأنّها لم تعرف كيف تواجه، موحّدةً، هذه "المؤامرة"، إن وُجِدت، أو ما يمكن بواقعيّةٍ وصفه بتحالف القوى المتضرّرة من أيّ تغييرٍ.

وإذا كانت تظاهرة رياض الصلح يوم الأحد الماضي شكّلت "أول الغيث" في حراك 2017، فإنّ الخشية أن تكون "بداية نهايته" أيضاً، إذا ما استمرّت الأمور على المنوال نفسه، باعتبار أنّ هذا التحرك بالتحديد لم يوحِ بأنّ شيئاً تغيّر في العقليّة المتحكّمة ببعض المجموعات المدنيّة، والتي تسمح للكثيرين، من غير أصحاب النوايا الحسنة، بالدخول على الخط وتخريب كلّ شيء. ولعلّ ضياع المنظّمين، والفوضى التي أحدثها انخراط بعض "الملثّمين" في التظاهرة، وقيامهم برمي المفرقعات النارية على القوى الأمنية، من المؤشّرات السلبيّة التي يجدر على المجموعات المدنية التوقف عندها، بدل رمي الكرة في ملعب الآخرين والاكتفاء بكلّ بساطة بتكرار نغمة أنّ من يرسل هؤلاء معروفٌ بالنسبة إليها.

ولا يبدو انسحاب بعض المجموعات من التحرّك قبل انتهائه، وعلى دفعات، مؤشراً إيجابياً أيضاً، خصوصًا أنّ العبرة الأساسية التي كان يفترض على كلّ المجموعات أخذها من تجربة 2015 ليست سوى ضرورة وضع حدّ للخلافات فيما بينها، وضرورة الاتفاق على برنامج موحّد وتحرّكات مشتركة، بعيدًا عن مساعي بعض الناشطين للظهور والاستعراض على حساب غيرهم، وهو ما يفترض بها أن تعمل عليه في المرحلة المقبلة، إذا كانت تريد فعلاً لحراكها أن ينتج شيئاً هذه المرّة.

الحريري "قطفها"...

من هذه الزاوية، يمكن القول أنّ المشهد خلال تظاهرة الأحد الماضي بدا أشبه بـ"نسخة طبق الأصل" عن حراك 2015، لجهة ضياع المنظّمين والفوضى التي أحدثها دخول "الملثمين" على الخط، ما أوحى وكأنّ المجموعات عادت "عفويًا" إلى الأرض، من دون أيّ أجندةٍ واضحةٍ، الأمر الذي دفعها وسيدفعها لتكرار الأخطاء نفسها، التي من شأنها أن تؤدّي، إن لم تُعالَج سريعًا، إلى إجهاض التحرّك من جديد، وبسرعةٍ قد تكون قياسيّة.

وعلى عكس المجموعات المدنيّة، بدا أنّ السلطة السياسية أخذت كلّ العِبَر اللازمة من تجربة 2015، فأتى تعاملها مع تظاهرة رياض الصلح مختلفاً رأساً على عقب عمّا حصل قبل سنتين. فعلى الرغم من أنّ القوى الأمنية كانت حاضرة بكثافة، لم يحدث أن شكا أيّ من المتظاهرين من "ضربة كفّ" تعرّض لها من جانب أيّ عسكريّ، بل تكاد المفارقة المضحكة المبكية تتمثّل بلجوء بعض المتظاهرين للقوى الأمنية، طالبين منها التدخّل لـ"تخليصهم" من بعض المتظاهرين، وردّ الأخيرة عليهم بأنّها هنا لتحميهم لا أكثر ولا أقلّ.

وإذا كان تصرّف القوى الأمنية ناتجًا عن توجيهاتٍ واضحة وحازمة، تمامًا كما كان استخدامها للقوة في العام 2015 ناتجاً عن توجيهاتٍ سياسية أيضًا، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ عرف أيضًا كيف "يقطفها"، مستفيداً من تجربة سلفه رئيس الحكومة السابق ​تمام سلام​. وعلى عكس الأخير، قرّر الحريري أن ينزل إلى الساحة، ليخاطب الشباب مباشرةً، وفي عزّ المظاهرة، في خطوةٍ لا يمكن توصيفها إلا بالجريئة، مهما اختلفت القراءات والتفسيرات السياسية لها.

ويمكن القول في هذا السياق أنّ الحريري ضرب أكثر من عصفورٍ بحجرٍ واحد بخطوته هذه، فحتى وإن اعتبرها البعض متهوّرة لأنّه لا يمكن أن يضمن ردّة فعل المتظاهرين في فورة غضبهم، إلا أنّ ذلك لا يقلّل من كونها خطوة ذكيّة إلى حدّ كبير، فهو أولاً لا يمكن أن يُتَّهَم كما اتُهِم غيره بتجاهل صرخة الشعب، وهو ثانيًا بدا متفهّماً بمواجهته الزجاجات الفارغة وربما غير الفارغة التي رميت باتجاهه بعبارة "معليش"، وثالثاً، وهو الأهمّ، عزّز رصيده الشعبي، خصوصًا في الساحة السنية، الأمر الذي برز خصوصًا في مسارعة خصومه إلى الدفاع عنه، وهي خطوة غير بريئة.

الأوان لم يفت بعد...

قبل سنتين، لم تتعامل السلطة السياسية مع مجموعات المجتمع المدني سوى باستعلاء وتكبّر، واستخفاف. يذكر اللبنانيون جيّداً كيف استخدمت الحكومة القوة في مواجهتها، وكيف وضعتها موضع اتهامٍ وتشكيك، وصولاً لحدّ حديث وزير الداخلية نهاد المشنوق علنًا عن دولٍ خارجية تموّلها.

فهم سعد الحريري الدرس. أراد أن يقول أنّه من الشعب، وأنّه يتفهّم صرخة الناس. لم يختر أسلوب التحدّي، بل نزل إلى الأرض، وذهب أبعد من ذلك ليطلب من المتظاهرين تشكيل لجنة لتناقشه مطالبها في السراي الحكومي.

لم تتلقّف المجموعات المدنية مبادرة الحريري. هي إما قابلته بالزجاجات، وهو ما قد يكون عفويًا، ولكنّه غير مثمر، وإما انقسمت على نفسها، وهو ما ينذر بمصيرٍ مشابهٍ لحراك 2015. إلا أنّ الأوان لم يفت بعد، ووحدها هذه المجموعات تستطيع تعويض ما فات، وإعادة الحياة لحراكٍ يريده اللبنانيون جميعًا مثمراً ومنتجاً، لأنّهم جميعًا يتألّمون، أياً كانت انتماءاتهم...