أيّ فرد قد يتبوأ موقعاً ومسؤولية، لكن، قلائل هم الذين يتحمّلون المسؤولية بجدارة ويمنحون الموقع هيبة ورهبة.

محمد البعلبكي، نقيب الصحافة اللبنانية لثلاثة عقود ونيّف، لم يكن من عمالقة الصحافة وحسب، بل كان مناضلاً، مناقبياً مؤمناً بقضية، لذا، منح موقعه هالة كبيرة، فكان من موقعه مؤثراً وفاعلاً في الحياة اليومية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ونجح في الظروف الصعبة التي مرّ بها لبنان، أن يضع «ميثاقاً» إعلامياً غير معلن، عنوانه ممارسة المهنة بأخلاقية عالية، والتزام القيم وتبنّي رسالة الوحدة في مواجهة كلّ أشكال التفتيت والتقسيم والطائفية والمذهبية.

أن تذكر اسم نقابة الصحافة في لبنان، يحضر اسم محمد البعلبكي نقيباً سجّل بصمة لا تُنسى، يحضر اسمه مثقفاً مبدعاً، خطيباً مفوّهاً، محاضراً في الجامعات والتجمّعات والمؤتمرات، مرافعاً في جلسات المحاكم، يقول أبلغ الكلام، ويطوّع الحرف من أجل الحقيقة والمعرفة والحق.

الذين عرفوا الراحل محمد البعلبكي، وهم كثر، يدركون أنّ هذا الرجل جسّد من خلال مسيرته الصحافية منظومة قيمية ترتكز على الصدق والالتزام والاتزان، فصار بحق أيقونة الصحافة والإعلام.

مع محمد البعلبكي حافظت الصحافة على جلالتها معززة بعاملّين، هما عامل الثقة وعامل الموضوعية، وهو كان ضنيناً بأن تبقى هذه الصحافة، متربّعة على عرش الجلالة، منيعة بوجه «فيروسات» الميوعة وعصية على غزوة المشاريع المشبوهة، التي اشترت الإعلام ووظفته في الفتن والحروب والمشاريع الهدامة.

حين كنا نسأله عن فوضى الإعلام في لبنان وبعض العالم العربي، وما يمكن فعله من أجل وقف هذا الانحدار، إنْ على شاشات الفضائيات أو في أقلام الكتبة، كان يقول: «الصحافة رسالة، والقيّمون على وسائل الإعلام والعاملون فيها يجب أن يكونوا على قدر هذه المسؤولية، وهم وحدهم من يستطيع ممارسة حرية الرأي والتعبير تحت سقف القيم والمبادئ، وحتى لا تتحوّل وسائل الإعلام وسائل فتنة وشرّ وضغينة».

اليوم، في وداع النقيب محمد البعلبكي، نستذكر محطّات مضيئة في تاريخ الصحافة اللبنانية، بمواجهة الاحتلال اليهودي وبمواجهة الحروب الفتنويّة.

نستذكر مواقف هذا الرجل الصلب، المتصالح مع الجميع، لمصلحة البلد.

نستذكر محطات نضاله منذ لحظة انتمائه الى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وتحمّله المسؤوليات ودخوله زنازين النظام الطائفي.

نستذكر زمن الورقة والقلم، والوعي، والقراءة الصحيحة لكلّ ما يُحيط بنا من تفاصيل سياسية واجتماعية وثقافية. والمهنية التي غرقت في بحر الألقاب «الإعلامية» التي باتت حالة افتراضية، دون أيّ حسيب أو رقيب.

محمد البعلبكي، سنديانة من السنديانات العتيقة ترمز الى الصلابة والعنفوان.

قامة من القامات صبرت… صابرت… صمدت وكافحت من أجل قضية…

وداعاً محمد البعلبكي… وداعاً أيها العملاق… ثقافة وأدباً وعلماً وتجربة نضالية حافلة بالعطاء.