في الوقت الذي تتضارب فيه المعلومات بشأن مدى التقدّم المُحقّق في ملفّ قانون ​الإنتخابات النيابية​ المُقبلة، تنشط الجهات السياسيّة القريبة من "حزب الله" في إعلان تأييدها لصيغة الاقتراع وفق النسبية الكاملة، مُجاهرة برفضها لأي قانون يتضمّن تصويتًا بخلفيّات طائفيّة ومذهبيّة مُغلقة، ومنها مثلاً "​القانون الأرثوذكسي​"، وحتى إقتراح القانون الثالث الذي كان وزير الخارجية ​جبران باسيل​ قد وزّعه للدرس والتقييم والذي ينصّ في جزء منه على التصويت النسبي، وفي جزء آخر على التصويت الأكثري على أن تنتخب كل طائفة مرشّحيها. وتُروّج بعض الماكينات الإعلاميّة أنّ القانون الجديد سيُولد في الأسابيع المُقبلة، وسيكون مبنيًا على أساس النسبية الكاملة. فهل فعلاً سينجح "حزب الله" بفرض قانون يعتمد مبدأ التصويت النسبي الكامل على الجميع؟

لا شكّ أنّ "الحزب" يُمارس ضُغوطًا كبيرة لتسويق قانون النسبيّة الكاملة، وفق لبنان دائرة واحدة، أو وفق أوسع دوائر إنتخابيّة مُمكنة في حال تعذّر تسويق الخيار الأوّل، بحجّة تأمين التمثيل الصحيح والعادل لكل الفئات. وقد بدأت تؤازره في مطلبه القديم المذكور مجموعة واسعة من الأحزاب والشخصيّات السياسيّة التي تدور في فلكه-إذا جاز التعبير، ومجموعة لا بأس بها من الوسائل الإعلاميّة أيضًا. ولا شكّ أنّ "حزب الله" ينطلق في إصراره على النسبيّة الكاملة من مُعطيات ووقائع تؤكّد كلّها أنّ هذا القانون سيُؤدّي تلقائيًا إلى فوز المحور السياسي المُؤيّد لقوى "​8 آذار​" السابقة في الإنتخابات المُقبلة، في تغيير جذري للتوازنات السياسيّة الداخليّة، باعتبار أنّ قوى "14 آذار" السابقة كانت فازت بالأغلبيّة النيابيّة في دورتي العامين 2005 و2009 السابقتين. وينطلق "الحزب" في حساباته من المُعطيات والوقائع التالية:

أوّلاً: في آخر دورة إقتراع جرت في لبنان، بينت الإحصاءات أنّ الأغلبيّة الشعبيّة العدديّة كانت لصالح القوى المُؤيّدة لمحور "المُقاومة"، ولوّ أنّ نتائج الأغلبيّة العدديّة للنوّاب جاءت غير ذلك نتيجة طبيعة تقسيمات الدوائر الإنتخابيّة لا أكثر، الأمر الذي يعني تمتّع "الحزب" بدعم شعبي رابح على مُستوى الوطن في حال تطبيق صيغة النسبيّة الكاملة.

ثانيًا: في آخر دورة إقتراع جرت في لبنان، بيّنت الإحصاءات أنّ نسبة التأييد الشعبي في الطائفة الشيعية هي لصالح لوائح "حزب الله" بنسب تجاوزت 80 و90 % في بعض المناطق، في مُقابل نسبة تأييد شعبي بلغت نحو 70 % بمعدّل عام، للوائح كل من "تيّار المستقبل" و"الحزب التقدمي الإشتراكي" ضمن المذهبين السنّي والدرزي على التوالي، الأمر الذي سيُترجم فوزًا محدودًا جدًا من خارج صفوف "الثنائي الشيعي" في حال تطبيق مبدأ النسبية الكاملة في الإنتخابات المُقبلة، في مُقابل ذهاب ثلث المقاعد النيابية التي هي من حصّة المذهبين السنّي والدرزي لصالح قوى وشخصيّات مُعارضة لكل من "المُستقبل" و"الإشتراكي" ومؤيّدة للسياسة العريضة للمحور الذي يقوده "حزب الله".

في آخر دورة إقتراع جرت في لبنان، بينت الإحصاءات أنّ التصويت المسيحي جاء مُنقسمًا ومُشرذمًا بشكل كبير، ليس بين الحزبين الرئيسين، أي "التيار الوطني الحُرّ" و"القوّات اللبنانيّة" فحسب، وإنّما مُوزّعًا على العديد من الأحزاب والقوى والشخصيّات السياسيّة، الأمر الذي يعني حُكمًا عدم القُدرة على تشكيل قُوّة سياسيّة مُوحّدة من قبل المسيحيّين في حال تطبيق مبدأ التصويت النسبي الكامل في القانون المُقبل. ومن المُتوقع بالتالي أن تجد الأحزاب الصغيرة التي تتمتّع بتأييد محدود في البيئة المسيحيّة، وكذلك بعض الزعامات والشخصيّات المناطقية، مَواطئ قدم لها في خريطة نتائج الإنتخابات المُقبلة، ومنها قوى مُختلفة مُؤيّدة لسياسة "الحزب".

إشارة إلى أنّه إذا كان تأييد "حزب الله" لصيغة التصويت النسبي الكامل، وفق لبنان دائرة واحدة أو وفق أوسع دوائر إنتخابيّة مُمكنة، مفهومًا إنطلاقًا من حسابات إنتخابيّة وسياسيّة دقيقة وواضحة، فإنّ المُستغرب أن تُوافق أي جهة مسيحيّة حريصة على إخراج الناخب المسيحي من تأثير صوت الناخب المُسلم عليه، على أيّ صيغة تصويت نسبي كاملة. والسبب أنّ نسبة الناخبين المسيحيّين في لبنان تراجعت من 39 % من إجمالي الناخبين اللبنانيّين في العام 2009، إلى نحو 36 % من إجمالي الناخبين حاليًا، بحسب لوائح الشطب. كما يُواجه الناخب المسيحي مُشكلة أخرى إضافة إلى قلّة العدد، تتمثّل بتوزّع الناخبين على مساحات جغرافية واسعة ومُتباعدة في كثير من المناطق، بعكس الناخبين المُسلمين الذين يتجمّعون بأعداد كبيرة في أكثر من منطقة ودائرة إنتخابيّة.

وفي الخلاصة، في حال رضوخ المسيحيّين لضُغوط "حزب الله" لتطبيق النسبية الكاملة في الإنتخابات المُقبلة، وخُصوصًا في حال الرضوخ لإخراج عمليّات التصويت من القيد الطائفي والمذهبي، فإنّ الإحتمال كبير بأن يصلوا سريعًا إلى حال من الندم العميق، تمامًا كما حصل عندما ظنّوا أن "قانون الستّين" المُعدّل في "مُؤتمر الدوحة" سنة 2008، "أعاد الحق لأصحابه"، قبل أن يكتشفوا عند ظهور النتائج أنّ قُدرة الناخب المسيحي على إيصال مُمثّليه إلى المجلس التشريعي بقواه الذاتيّة، لا تتجاوز نسبتها وفق هذا القانون ثلث عدد النواب من أصل 64 نائبًا! فهل سيتكرّر الخطأ بالنسبة إلى النظرة التقييميّة لقانون النسبية الكاملة؟!