قبل عام، شكّلت القمّة العربيّة في نواكشوط "الشرارة" التي وتّرت علاقات ​لبنان​ مع محيطه العربي ولا سيما الخليجي، وفتحت الباب واسعًا أمام ما يتخطّى "الفتور" في العلاقات بل يرقى لمستوى "الأزمة" بكلّ ما للكلمة من معنى، ما دفع دولاً خليجيّة لطالما وُصِفت بالحاضنة للبنان إلى وقف كلّ أشكال التعامل معه.

ووفق قاعدة "ما أشبه اليوم بالأمس"، يبدو لبنان الرسميّ اليوم، وعشية القمة العربية المنتظر عقدها في عمّان يوم الأربعاء، في موقفٍ لا يُحسَد عليه، وهو يواجه من جديد "التحدي" نفسه، خصوصًا بعدما نجح، إلى حدٍ ما، في إعادة فتح جدار في كوة العلاقات مع الخليج، وإن لم يكن ذلك كافياً.

فكيف سيتعاطى لبنان مع القمة العربية؟ هل يعود إلى نغمة "النأي بالنفس" بعدما أثبتت عدم جدواها العام الماضي، أم ينجح في تحويل "التحدي" إلى "فرصة" في تصويب العلاقات اللبنانية العربية، ولا سيما الخليجية؟

الظروف مختلفة...

بدايةً، لا شكّ أنّ الظروف السياسية وغير السياسية التي تعقد فيها القمّة العربية في عمّان هذا العام مختلفة كثيراً عن الظروف التي عقدت فيها القمّة العربية الأخيرة، سواء في لبنان، لجهة التغييرات النوعية التي حصلت في الأشهر المنصرمة، أو بالنسبة للعالم، والتغييرات التي أحدثها انتخاب الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ خلفاً للرئيس باراك أوباما.

فبالنسبة للبنان أولاً، لا شكّ أنّ انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، بموجب تسوية وُصِفت بالدولية، وقيل أنّ السعودية و​إيران​ شاركتا بصياغتها بشكلٍ أو بآخر، شكّل فارقاً كبيراً، إذ بات للبنان رئيسٌ قوي للجمهورية، ينطق باسم الدولة اللبنانية ككلّ، بخلاف ما كان عليه الواقع اللبناني في العام الماضي، في ظلّ الفراغ الرئاسي، وضياع الموقف الرسميّ بين رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية وباقي الشخصيات.

وإذا كان موقف لبنان في القمّة العربية الأخيرة ضعيفًا وقابلاً للاهتزاز انطلاقاً من هذا الواقع، فإنّ الأمور مختلفة هذا العام، خصوصًا في ضوء حرص كلّ من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة ​سعد الحريري​ على تنسيق الموقف بشكلٍ تام فيما بينهما، وذلك للخروج بموقفٍ واحدٍ ومشترك، حتى لا تتكرّر أيضًا "مهزلة" المشاركة في القمة العربية قبل أعوام بوفدين رسميين، ترأس أحدهما الرئيس الأسبق العماد ​إميل لحود​، والثاني رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة.

ولعلّ الانفتاح الرسمي على ال​دول الخليج​ية مع انطلاقة العهد الجديد لعب دوره أيضاً في التقليل من نقاط الاختلاف والاشتباك، خصوصًا بعد افتتاح الرئيس ميشال عون أجندة زياراته الخارجية بزيارة كلّ من السعودية وقطر، علمًا أنّه لم يزر حتى الآن سوريا وإيران، وإن لعبت تصريحاته حول "حزب الله" وسلاحه دوراً معاكساً في ذلك، على الرغم من أنّها أتت في إطار الردّ على التهديدات الإسرائيلية المتمادية في وجه لبنان.

ولكن، إذا كانت الظروف اللبنانية السياسية اختلفت، مع بقاء الخصوصية اللبنانية على حالها، فإنّ الظروف العالمية المحيطة بالقمّة العربية تغيّرت أيضًا، باعتبار أنّ هذه القمّة هي الأولى من نوعها منذ تغيّر الإدارة الأميركية، ووصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وما رافق ذلك من "تحوّلات" في السياسة الخارجية، قيل أنّها أتت لصالح دول الخليج، خصوصًا في ما يتعلق بعودة التوتر على صعيد العلاقات الأميركية الإيرانية، وبالتالي أيضاً على العلاقات السعودية الإيرانية، بعد فترةٍ من الهدوء النسبي، رغم بعض المؤشرات الإيجابية كإعلان طهران مشاركة الحجاج الإيرانيين في موسم الحجّ لهذا العام.

صيغة وسطيّة؟

ويعتقد الكثيرون أنّ الدول العربية ستستفيد من هذا الواقع لرفع النبرة في وجه إيران من خلال القمة العربية، خصوصًا في ضوء ما تقول أنّه تدخّلٌ إيراني في شؤون العديد من الدول العربية، كاليمن والبحرين وسوريا، وإن كان الإيرانيون ينفون ذلك، ويتّهمون في المقابل دولاً عربية وغير عربية بالتدخل في العديد من الساحات العربية، وتغذية الصراعات فيها، الأمر الذي سيضع لبنان من جديد في موقفٍ صعب، بين وقوفه إلى جانب الإجماع العربي، والتزامه التوازن الذي تتطلّبه تركيبته السياسية.

انطلاقاً من ذلك، يُحكى عن "مفاوضاتٍ ووساطاتٍ" انطلقت عمليًا، من جانب مصر والأردن خصوصاً لتقريب وجهات النظر والتوصّل إلى صيغةٍ يمكن وصفها بـ"الوسطيّة"، يمكن أن يوافق عليها لبنان بعيدًا عن بدعة "النأي بالنفس" و"التحفّظ" التي أثبتت عدم جدواها العام الماضي. وإذا كانت الدول العربية تنتظر من لبنان إدانة التدخلات الإيرانية في المنطقة وعدم الاكتفاء بالوقوف على الحياد، فإنّ الأفكار المطروحة تتضمّن أن تشمل الصياغة، إلى جانب إدانة التدخل الإيراني، إدانة تدخّل أيّ دولة في شؤون الدول العربية، لإضفاء بعض التوازن عليه.

وفي حين يؤكد المتابعون إمكانية التوصل لخروقاتٍ على هذا الصعيد، خصوصًا في ضوء المرونة اللبنانية معه، علمًا أنّ لبنان لم يتحفّظ أصلاً في العام الماضي على بند إدانة الهجمات التي حصلت على البعثات الدبلوماسية السعودية، تبقى المشكلة الأساسية تتعلّق بالموقف من "حزب الله". فعلى الرغم من أنّ الحزب أبلغ كلّ من يعنيهم الأمر أنّه يتعاطى باستخفاف وعدم اكتراث مع الجامعة العربية، ولا يقيم لها أيّ اعتبار أصلاً، ويعتبرها غير موجودة منذ أن شطبت سوريا من عضويتها، إلا أنّ لبنان لا يمكن إلا أن يتحفّظ على أيّ بيان يدين "حزب الله" بالاسم، خصوصًا إذا ما استُخدِمت عبارة "الممارسات الإرهابية" في الإشارة إليه، كما حصل سابقاً.

من هنا، فإنّ ما يسعى إليه لبنان هو إما الوصول إلى صيغةٍ تكون مقبولة من جانبه، وإما أن يقنع العرب والخليجيين بـ"خصوصيّته"، خصوصًا أنّه ينطلق من البيان الوزاري للحكومة كما خطاب القسم الذي تلاه رئيس الجمهورية بعيد انتخابه، وكلاهما حصل على الرضى الخليجي، والسعودي تحديداً، علمًا أنّ كلاً من عون والحريري يصرّان على أن لا تكون هذه القمّة مناسبة لترسيخ الخلافات، بل على العكس من ذلك يريدان منها تصحيح ما اعترى العلاقات من إشكاليات في المرحلة الأخيرة.

لا تصعيد...

لا توحي المعطيات والمؤشرات أنّ لبنان مقبلٌ على تصعيدٍ في العلاقات مع الخليج، أياً كان مسار الأمور في قمّة عمّان، ولو تحفّظ على بندٍ يدين "حزب الله"، وردّت الدول الخليجية في المقابل بالتحفّظ على أيّ بندٍ يدعو للتضامن مع لبنان ومؤسّساته، بكلّ بساطة لأنّ الواقع اللبناني مغايرٌ تمامًا لذلك الذي كان سائداً في العام الماضي.

ولكن يبقى السؤال المحوري الأساسي عمّا إذا كان رئيسا الجمهورية والحكومة، اللذان سيحرصان على الخروج بموقفٍ واحدٍ وصورةٍ موحّدة، سينجحان في تحقيق الهدف المرجوّ من مشاركتهما، أم أنّ "امتعاض" الخليجيين من آراء بعض اللبنانيين بحقهم ستبقى بالمرصاد لأيّ مبادرات حسن نيّة...