في مشهد إقليمي معقّد للصراع الغربي في ساحات المنطقة، نجح لبنان ولو متأخراً في تجاوز الفراغ الرئاسي وانتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري.

بقي ​قانون الانتخاب​ عالقاً بعد إنجاز التعيينات العسكرية والأمنية والقضائية. رُبط به إقرار سلسلة الرتب والرواتب والموازنة في الهيئة العامة.

دخل القانون الانتخابي في عبثية الحروب السياسية والمواقف الانفعالية حول مَنْ يقرّر من المكوّنات المعنية طبيعة النظام الانتخابي الذي من شأنه إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها من جديد.

يتجه المشهد نحو المزيد من المراوحة والجمود. لم تتوصل نقاشات الأسابيع الماضية إلى نتيجة، بعدما كان من المفترض أن يبصر النور، القانون الانتخابي الجديد قبل 15 نيسان المقبل.

لم تلقَ صيغة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل تأييداً من حركة أمل وحزب الله وتيار المستقبل، رغم الفرقعات البرتقالية التي أطلقها العونيون. حزب الله، المتمسّك بالنسبية الكاملة، حاول التعاطي بإيجابية مع الطرح "الباسيلي" باستعداده لإجراء نقاش تفصيلي. عقدت اجتماعات مكثفة سياسية وتقنية، قدم الحزب خلالها مجموعة من الملاحظات تتعلق بالصوت التفضيلي وتقسيمات الدوائر، لكن وزير الخارجية رفض السير بها.

لم تراعِ اقتراحات باسيل كلها، بعين الاعتبار، وصول حلفاء حزب الله وحلفاء التيار الوطني الحر في 8 آذار إلى الندوة البرلمانية أو توسيع تمثيلهم. هذا ما دفع بعضو المجلس المركزي في "حزب الله" الشيخ نبيل قاووق الى نعي "صيغة ميرنا الشالوحي" بطريقة غير مباشرة، بتأكيده أمس أنّ "مسار الاتفاق على قانون انتخابي جديد يتعقد أكثر فأكثر، ونقترب كلبنانيين من انتهاء المهل، وبالتالي ندخل في المجهول".

لا شك في أنّ باسيل شخصية محورية في الحياة السياسية اللبنانية وهو كذلك على الأقلّ منذ دخول تياره "جنة السلطة". خيضت من أجله حروب كبرى وصغرى ليبقى حاضراً في مجلس الوزراء. تأجلت بسببه حكومات لأشهر طويلة لكي يوزَّر سواء في الخارجية أو في الطاقة. حزب الله بالذات في حكومات متعاقبة حليفة له "حكومة الرئيس نجيب ميقاتي" قلب معايير الخسارة والربح لكي يبقى باسيل صاحب المعالي. لم يحصل كلّ ذلك لاعتبارات لها علاقة برئيس "الوطني الحر" شخصياً، بقدر صلتها بالعلاقة مع رئيس الجمهورية وما يمثل، سواء على مستوى العلاقة مع حارة حريك أو على المستوى الوطني، بغضّ النظر عن أنّ للوزير باسيل أياديَ بيضاء تفاوضية في تجسيد القرار السياسي للرئيس عون في توقيع ورقة التفاهم مع المقاومة في كنيسة مارمخايل شباط 2006.

ذروة أهمية "الصهر المدلل" حققت نقلة نوعية مع تبوء الرئيس عون سدة الرئاسة. لم يعد فقط الوزير الملك إنما أصبح كلمة سر العهد.

وبما أنّ باسيل أصبح رجل القرارات الكبرى، فمن الطبيعي أن يكون في مرمى التصويب الإيجابي والسلبي. يتّهم البعض وزير الخارجية بأنه صاحب خطاب شعبوي "يطبطب" على العواطف والغرائز، تحت عناوين الشراكة والتمثيل المسيحي وتطبيق الدستور وغير ذلك من السواتر. خطورته، وفق مصادر مطلعة لـ البناء"، أنه حاكى لحظة معينة من خطاب عاشه لبنان العام 1975 إلى درجة أن البعض مرّ بالذاكرة على شخصيات تبنّته، واعتبر عندما لمس كلام باسيل أسماعه، أن الوجوه وحدها تغيّرت.

يعطي هذا البعض باسيل حقه لناحية وفائه للمقاومة. فهو يتشاور معها على مدار الساعة. لا يتآمر عليها بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، لكنه في الوقت نفسه، يحاول أن يثمر ذلك في الكثير من العناوين الداخلية التي قد لا تريح الضاحية في تفاصيل كثيرة.

في المقابل، يدافع البعض الآخر عن وزير الخارجية بالقول إنه شخصية مثابرة حيوية. لم يكلَّ باسيل، وفق هؤلاء، عن طرح أفكار انتخابية. يسعى جاهداً مع القيادات الكبرى للوصول إلى تفاهمات انتخابية. يعمل بحسب معاصريه، أكثر من 20 ساعة يومياً. فهو شخصية تحاكي روح العصر. لا تحب إضاعة الوقت. تفكر بالمستقبل. لا تضيّع وقتها بالمناكفات الشخصية والحرتقة. تعمل لأهداف بعيدة المدى، متكلة على ذكاء كبير واستشراف وعمر مساعد.

يؤكد قطب سياسي بارز لـ "البناء" أنّ الدفاع عن حقوق المسيحيين لا يكون بالتجييش الطائفي أو بالصيغ الانتخابية التي تقوم على التأهيل الطائفي أو الاقتراع الطائفي أو الارثوذكسي المذهبي. ما يؤخذ على باسيل، بحسب القطب نفسه، أنه لا يتحرّك منذ بداية العهد الجديد، بناء على هواجس وطنية، إنما بناء على هواجس رئاسية. منذ لحظة تربّع العماد عون على كرسي قصر بعبدا، فتحت معركة رئاسية، قابعة في خلفية عقل المرشح عن المقعد الماروني للانتخابات النيابية في البترون، في مقاربته لكلّ عنوان سياسي مطروح.

تفصل قيادات سياسية في فريق 8 آذار بين رئيس الجمهورية ورئيس التيار الوطني الحر. لفخامته، كما ترى تلك القيادات، هامش مناورة وقدرة على التدخل وإبداء الرأي والحسم عندما تستدعي الحاجة. لن يقبل الرئيس عون بقانون لا يحقق صحة التمثيل وعدالته. فهو يريد أن ينقل لبنان من الطائفية السياسية إلى المواطنة الحقيقية.