منذ إنتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجُمهوريّة نجحت القيادات السياسيّة في مُعالجة الكثير من المشاكل العالقة، وبعضها مُزمن، باستثناء مُشكلة واحدة أساسيّة تتمثّل في موضوع قانون الإنتخابات النيابيّة المُقبلة. وفي هذا السياق، وبعد التوافق على توزيع الأحجام داخل الحُكومة، جرى تقاسم الحُصص على مُستوى التعيينات الأمنيّة وبعض التعيينات الإداريّة. ثم تمّ وضع بعض المشاكل القديمة، ومنها موضوع المُوازنة العامة وملفّ الكهرباء، على سكّة الحلّ، ولوّ وفق الطريقة اللبنانيّة-إذا جاز التعبير، بالتزامن مع التعهّد بإقرار سلسلة الرتب والرواتب في المُستقبل غير البعيد. حتى أنّ إعتماد أسلوب التركيز على الثوابت العامة والكلام القابل لأكثر من تفسير يُعتمد في أكثر من بيان وموقف، من البيان الوزاري وُصولاً إلى موقف السُلطة اللبنانيّة في قمّة عمّان العربيّة، وذلك لإظهار وحدة الموقف، أقلّه ظاهريًا. فهل هذه الحلول-وبغضّ النظر عن مدى مثاليّتها، ستُطبّق في ما خصّ ملف الإنتخابات، وماذا إذا أقفِلت الحلول وعاد الحديث عن ضرورة اللجوء إلى "مؤتمر تأسيسي" كمخرج وحيد؟

لا شكّ أنّ منطق المُساومة وتقاسم الحصّص واللعب على الكلام يصلح لحلّ الكثير من الملفّات اللبنانيّة العالقة، كما ظهر في التجربة الميدانيّة، لكنّ هذه الأساليب لا تبدو قابلة للتطبيق في ما خصّ ملف قانون الإنتخابات، بسبب تضارب كبير في المواقف والمصالح، بين مُختلف الأفرقاء والقوى، حتى ضُمن أولئك الذين يُفترض أن يكونوا حلفاء في الخط السياسي العريض. وأسفر هذا التضارب عن إستمرار الفشل في التوصّل إلى تسوية وسطيّة ترضي الجميع، حيث سقط الإقتراح تلو الإقتراح، وبدأت المهل الدُستوريّة بالسقوط الواحدة بعد الأخرى أيضًا. وبالتالي، في حال إستمرار الفشل في حلّ هذا الملفّ الدقيق والذي يتمتّع بأهميّة قُصوى على مُجمل الأحجام والتوازنات السياسيّة الداخليّة لسنوات طويلة إلى الأمام، سيعود طرح "المُؤتمر التأسيسي" إلى الواجهة، في ظلّ رفض إجراء الإنتخابات وفق القانون النافذ حاليًا، ورفض التمديد لفترة طويلة للمجلس المُمَدّد له أصلاً.

لكنّ المُوافقة على إنعقاد "مؤتمر تأسيسي" لحل المُشكلة، كما تقترح بعض الشخصيات والقوى السياسيّة، سيكون له إرتدادات خطيرة على المسيحيّين، وعلى الوضع اللبناني ككل، لأسباب عدّة أبرزها:

أوّلاً: موضوع إعادة منح رئيس الجمهوريّة سُلطات مُهمّة جرى إنتزاعها بسبب الخلل في التوازنات الداخليّة والإقليميّة نهاية التسعينات، سيتسبّب بمُواجهة سياسيّة بخلفيّات طائفية ومذهبيّة بين القيادات المسيحيّة والسنّية، في ظلّ رفض جامع للقيادات السنّية بمختلف توجّهاتها السياسيّة، إنتزاع أيّ سلطة من سُلطات رئيس الحكومة، لصالح إعادة تقوية السُلطات المَمنوحة لرئيس الجمهوريّة، علمًا أنّ الدُستور الذي أعطى مجلس الوزراء مُجتمعًا سُلطة القرار التنفيذي يتعرّض لانتهاكات كبيرة على مُستوى التطبيق. ومن غير الواقعي والمنطقي حديث البعض عن إمكان تعزيز سُلطات رئيس البلاد من دون التعرّض لباقي السُلطات، حيث أنّ الأمر لا بُدّ وأن يتسبّب بتضارب كبير على مُستوى الصلاحيّات.

ثانيًا: موضوع مجلس الشيوخ المَنوي تشكيله لتمثيل مختلف الجهات اللبنانيّة سيكون بدوره محطّ خلاف طائفي-مذهبي بين المسيحيّين والدروز حيث يُطالب المسيحيّون بأن يكون منصب رئيس مجلس الشيوخ من نصيب طائفة الروم الأرثوذكس، لسببين إثنين: الأوّل لتوزيع المناصب القياديّة الأربعة الأساسيّة في البلاد، أي رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والحكومة ومجلس الشيوخ، مُناصفة بين المسيحيّين والمُسلمين عملاً بالدُستور، والثاني لأنّ عدد أبناء طائفة الروم الأرثوذكس يفوق عدد أبناء طائفة المُوحّدين الدروز، ومن حقّهم بالتالي أن يحظوا بمنصب مُهمّ في السُلطة، في مُقابل تنازلهم مثلاً عن منصب نيابة رئاسة الحكومة للدروز. في المُقابل، يُطالب الدروز برئاسة مجلس الشيوخ، بحجّة التوافق الشفهي على هذا الأمر في "مُؤتمر الطائف" نهاية الثمانينات، وليكون للدروز المنصب القيادي إلى جانب كلّ من الشيعة والسنّة.

ثالثًا: موضوع سلاح "حزب الله" سيكون من المواضيع الخلافيّة أيضًا، حيث ستسعى القيادات الشيعية، وفي طليعتها "الثنائي الشيعي"، إلى تحويل التغاضي عن هذا الملف بحكم التأقلم مع الأمر الواقع والعجز عن تغييره بالنسبة لبعض القيادات المسيحيّة، أو المُوافقة على وجوده حتى إشعار آخر بالنسبة إلى بعض القيادات المسيحيّة الأخرى، إلى واقع دائم مكتوب ومُثبت في الدُستور، بحيث لن يكون من المُمكن تغييره في المُستقبل القريب أو البعيد، ما سيُخلّ بالتوازنات السياسيّة الداخليّة بشكل غير قابل للنقاش هذه المرّة.

رابعًا: إنّ تحوّل عدد المسيحيّين إلى نحو 35 % من إجمالي عدد اللبنانيّين، كما تُبيّن لوائح الشطب الإنتخابيّة المُحدثة، سيدفع بعض القوى إلى إعادة تحريك موضوع "المُثالثة" على مُستوى الحُكم وتوزيع المناصب، بدلاً من "المُناصفة" الحالية-ولوّ النظريّة. وبالتالي سيُصبح المسيحيّون في موقع دفاعي عن مناصب قائد الجيش، ومدير الإستخبارات، وحاكميّة مصرف لبنان، إلخ... بدلاً من أن يستعيدوا سُلطات فقدوها في النهاية غير المُتوازنة للحرب اللبنانيّة!

والمَواضيع الخلافيّة التي ستكون مُدرجة في جدول أعمال أيّ "مؤتمر تأسيسي" مُتعدّدة ولا يُمكن حصرها بمقال واحد، لكنّها كلّها ستضع المسيحيّين بمُواجهة مع الطوائف والمذاهب الأخرى، وستضع اللبنانيين بمواجهة بعضهم بعضًا. وبالتالي، إذا كان الهدف من إلتقاء القيادات اللبنانية هو تنظيم الخلافات في ما بينهم، والتوافق على قانون جديد للإنتخاب، فإنّ فتح باب الحوار المباشر قد يُشكّل الفرصة المناسبة وربّما الأخيرة لذلك، لكن شرط التركيز على قانون الإنتخابات المُقبل وعلى تنظيم الخلافات، تجنّبًا لتحويل "المُؤتمر الحواري" المطلوب إلى "مؤتمر تأسيسي" يُعيد صياغة الدُستور اللبناني، وفق توازنات لا تنُاسب المسيحيّين إطلاقًا.