لم يكن مفاجئاً أن يسعى عدد من رؤساء الجمهورية والحكومة السابقين، من أمثال ​ميشال سليمان​ و​أمين الجميل​ و​نجيب ميقاتي​ وحتى ​تمام سلام​، إلى "الحرتقة" على العهد "القوي"، كونهم يعتبرون أنفسهم متضرّرين منه بشكل أو بآخر، ومن مصلحتهم التشويش عليه.

أما أن يكون رئيس "كتلة المستقبل" فؤاد السنيورة في عداد هؤلاء "المحرتقين"، الذين تجاهلهم رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ واتهّمهم وزير الداخلية ​نهاد المشنوق​ بارتكاب "خطيئة وطنية"، فأمرٌ له دلالاته التي لا يخفّف من وقعها قول السنيورة أنّه فعل ما فعله "بصفةٍ شخصيّة".

فهل من رسائل محدّدة أراد السنيورة إيصالها إلى الحريري؟ ألا يكفي ما حصل لتأكيد المؤكد الّذي لطالما نفاه الرجلان عن أنّ العلاقة بينهما ليست على ما يرام؟.

جزء من كلّ

في معرض "الدفاع عن النفس"، قال رئيس "كتلة المستقبل" إنّه وقّع على "الرسالة الخماسية" التي تمّ إرسالها إلى القمّة العربيّة "بصفة شخصية"، نافيًا أن تكون قد أتت تلبيةً لطلب أحد في الداخل أو الخارج، أو أن يكون الهدف منها التخريب على العهد، بل الإشارة إلى أنّ هنالك وجهات نظر ترفض السكوت عن السلاح غير الشرعي.

لا يبدو كلام السنيورة هذا شديد الإقناع، باعتبار أنّه لا يمكن قراءة توجيه رسالة إلى القمّة العربية من جانب مجموعة سياسيّين ينتمون لدولةٍ ممثَّلةٍ نظريًا في القمّة بوفدٍ رسمي، قوامه رئيسا الجمهورية والحكومة ميشال عون وسعد الحريري، إلا على أنّها تشويشٌ على موقف الدولة الرسمي الذي لا يمثله رؤساء "سابقون". ولعلّ ما يزيد من "فداحة" الخطوة التي أقدم عليها "خماسيّ السابقين" أنّها أتت لتوحي من جديد وكأنّ هناك انقسامًا داخليًا من شأنه إضعاف الموقف اللبناني، في وقتٍ كان يجهد كلّ من عون والحريري للقفز فوق الاختلافات والتباينات، والذهاب إلى القمّة بموقفٍ واحدٍ موحّد، وبالتالي قوي وصلب.

عمومًا، وبعيدًا عن التداعيات الممكنة للخطوة "الخماسية"، فإنّها، إن دلّت على شيء، فعلى أنّ السنيورة بات يغرّد خارج سرب الحريري، وهو يشعر أنّه بات أقرب في الخيارات السياسية، ولا سيما الاستراتيجية منها، إلى الموقّعين على الرسالة منه إلى الحريري، وهو يتشارك معهم الدوافع التي حفّزتهم للتوقيع عليها، خصوصًا أنّه مثلهم يعتبر نفسه متضرّراً من الأعراف الجديدة التي يكرّسها العهد، لا سيما لجهة تكريس مبدأ "الرجل الأقوى في المكان المناسب"، وهو ما لا يناسب السنيورة "المُبعَد قسرًا" عن القيادة في هذه المرحلة.

وليس خافيًا على أحد ارتباط توقيع السنيورة بعدم رضاه عن السياسات التي اتخذها الحريري في المرحلة الأخيرة، ولا سيما لجهة التضحيات الكثيرة التي قدّمها في سبيل العودة إلى السلطة، بدءًا من انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، وصولاً إلى "مساكنة" حزب الله بشكلٍ أو بآخر، والتناغم معه على أكثر من مستوى. وإذا كان السنيورة يعتمد منذ فترةٍ غير قصيرة مبدأ "خير الكلام ما قلّ ودلّ"، فإنّ الواضح أنّه لم يكن يومًا من المتحمّسين لما يعتبرها "تنازلات" أقدم عليها الحريري، وهو لا يرى أنّ "الغاية" تبرّرها، خصوصًا أنّ "المستقبل" لم يتمكّن من أن "يصرفها" كما يصبو ويطمح حتى اليوم، بل يبدو مدفوعًا لتقديم المزيد من التضحيات بكلّ بساطة.

تباينات بالجملة

هي ليست المرّة الأولى التي يظهر فيها التباين في السياسة بهذا الوضوح بين الحريري والسنيورة، وقد سبق أن كُتِب الكثير في محطاتٍ مفصليّة عديدة عن غياب الانسجام بينهما، الأمر الذي كان الرجلان يحرصان على نفيه ودحضه شكليًا، فيما كان البعض يذهب لحدّ الحديث عن "توزيع أدوار" متعمّد فيما بينهما.

إلا أنّ الواقع هذه المرّة يبدو مختلفًا، فالحريري هو المتضرّر الأول من "تمايز" السنيورة، حتى ولو كان مقتنعًا برأيه، بل متّفقاً معه بمضمونه، ولكنّه يدرك أيضاً أنّ مصلحته كرئيسٍ للحكومة تكمن في الاتحاد في الموقف مع رئيس الجمهورية، خصوصًا في المحافل العربية والدولية، ليس منعًا لتكرار "ثنائية" إميل لحود ورفيق الحريري فحسب، بل أيضًا تفاديًا لتكرار "مهزلة" ضياع الموقف اللبناني بعيد اغتيال الحريري، حين تمثّل لبنان بوفدين رئاسيين ترأس أولهما رئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحود، فيما ترأس الثاني السنيورة نفسه.

وإذا كانت فرضية "توزيع الأدوار" تبدو مستبعَدة انطلاقاً من ذلك، لصالح فرضية "التباينات" الآخذة في الاتساع بين الرجلين، فإنّ الواضح أنّ السنيورة أراد أن يرسل إلى الحريري أكثر من رسالة من خلف السطور، هو الذي بات يشعر بالتهميش داخل "المستقبل"، منذ عودة الحريري إلى البلاد منهيًا "غربته القسرية"، التي تصدّر فيها السنيورة المشهد في الشكل والمضمون، وتحوّل إلى "الرقم واحد" داخل التيّار "الأزرق".

وعلى الرغم من أنّ السنيورة احتفظ بلقب "رئيس كتلة المستقبل" بعد عودة الحريري، إلا أنّه، ومع كلّ يوم يمرّ، يشعر أكثر وأكثر بتراجع دوره ونفوذه، بل بات التعامل معه يتمّ وكأنّه "درجة ثانية" في التيّار، بل ربما أقلّ من ذلك، مع تصاعد نجم شخصيات أخرى أكثر قربًا من الحريري، على رأسها وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، الذي يبدو أنّه أصبح "الخيار البديل" للحريري في رئاسة الحكومة في حال اختار الانكفاء، بعد أن كان السنيورة يتمتّع بهذا "الامتياز" سابقًا.

ولعلّ ما يزيد من شعور السنيورة بالتهميش من الداخل هو استهداف كلّ صقور "التيّار" المحسوبين عليه، والذين باتوا إما خارج التيّار ككلّ، على غرار الوزير السابق ​أشرف ريفي​ أو حتى النائب خالد الضاهر، أو في وضعٍ حرجٍ كالنائب أحمد فتفت، أو تمّ اجتذابهم للمعسكر "الحريري"، كما هو حال بعض من تمّ توزيرهم في الحكومة الحريريّة الحاليّة لهذا السبب بالتحديد، فخفت صوتهم إلى حدّ كبير.

السنيورة ليس ريفي!

منذ فترةٍ غير قصيرة، والتباينات بين الحريري والسنيورة آخذة في الاتساع، وتكاد تشمل كلّ الملفات الخلافية على الساحة، أقلّه في العلن، وهذا الأمر ليس خافيًا على أحد، لدرجة أنّ إيجاد "القواسم المشتركة" بين الرجلين بات شبه مستعصٍ على كثيرين.

لكن، أبعد من كلّ ذلك، تبقى الرسالة الأقوى التي يوجّهها السنيورة للحريري أنّه ليس أشرف ريفي ولا خالد الضاهر ولا أحمد فتفت ولا غيرهم، وهو المنخرط في السياسة "المستقبلية" منذ أيام الحريري الأب، وقبل أن يرثه "الشيخ سعد". وبناءً عليه، هو باقٍ في موقعه، ولن ينسحب كرمى لعيون أحد، وبالتالي، فهو يريد أن يقول للحريري أنه "هنا"، وأنّه لا يمكن أن يبقى متفرّجاً على محاولات "شطبه" من المعادلة "المستقبليّة"، من دون أن يصدر عنه أيّ ردّة فعل.