سواء كانت متوقّعة أم مفاجئة، لا شكّ أنّ الزيارة الأولى لرئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ إلى المملكة العربية السعودية، بعد قطيعةٍ طويلةٍ نسبيًا، أتت "استثنائية" في الشكل قبل المضمون.

ففيما تسرّبت معلوماتٌ خلال الأيام الماضية عن أنّ الحريري يريد "ضمانات" بأن يلتقي الملك السعودي ​سلمان بن عبد العزيز​ في أيّ زيارةٍ محتملةٍ له إلى السعودية، كان لاصطحاب الأخير له على طائرته الملكيّة الخاصة وقعه المعنويّ الكبير، خصوصًا أنّه أتى مع انتهاء القمّة العربيّة، التي كان كثيرون يراهنون عليها لتوتير العلاقات، لا تمتينها.

ولكن، أيّ رسائل أرادت السعودية إيصالها خلف "الاحتضان" السعودي المتجدّد للحريري؟ وهل من ترجمةٍ ممكنة أصلاً له على صعيد العلاقات الثنائية بين لبنان والسعودية؟

تفهّم لموقف لبنان؟!

بدايةً، لا يخفى على أحد أنّ خشيةً كبيرةً كانت قد تولّدت عشيّة القمّة العربيّة في عمّان من أن يتكرّر "سيناريو" قمّة نواكشوط في العام الماضي، فيجد لبنان نفسه في موقفٍ محرجٍ، يضعه في "عزلةٍ" عن العرب، خصوصًا أنّ العلاقات اللبنانية الخليجية عامة، واللبنانية السعودية على وجهٍ خاص، لم تتوتّر إلا بعد "تحفّظ" لبنان عن بعض بنود القمّة العربيّة الأخيرة، انسجامًا مع ما يسمّيها بسياسة "النأي بالنفس".

ولا يخفى أيضًا على أحد أنّ بعض المتضرّرين من العهد، والراغبين بـ"الحرتقة" عليه بشكلٍ أو بآخر، عملوا حتى اللحظة الأخيرة إلى الدفع نحو شيءٍ من هذا القبيل، من خلال "التشويش" على الموقف اللبناني الرسميّ، وما "الرسالة الخماسيّة" الشهيرة التي أرسلها خمسة رؤساء جمهورية وحكومة سابقين هم ميشال سليمان، أمين الجميل، فؤاد السنيورة، نجيب ميقاتي وتمام سلام، سوى الدليل الأوضح على ذلك.

وإذا كانت بعض المعلومات تحدّثت عن "مباركة سعودية" للرسالة الخماسيّة، التي ارتدّت أصلاً سلبًا على الموقّعين عليها، الذين تجنّدوا واستنفروا في الساعات الماضية في محاولةٍ للدفاع عن النفس، في وجه الهجوم الذي تعرّضوا له من أصدقائهم وخصومهم على حدّ سواء، فإنّ المملكة حرصت، من خلال "احتضانها" للحريري، على أن "تبرئ ذمّتها"، ظاهريًا على الأقلّ، من هذه الرسالة، تمامًا كما فعلت سابقًا عندما استقبلت رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بحفاوةٍ لافتة، بعد كلّ ما قيل عن انزعاجها من التسوية الرئاسية التي أفضت إلى انتخابه رئيسًا.

وعلى الرغم من أنّ تصريحات الأخير في وقتٍ لاحقٍ عن "حزب الله" وسلاحه لم تكن على خاطر السعودية، إلا أنّ الخطوة الإيجابية باتجاه الحريري، إن دلّت على شيء، فعلى أنّ العلاقات اللبنانية السعودية هي على المسار الصحيح، رغم ما شابها هنا وهناك، وهي أكدت وجود رضا سعودي عن الموقف اللبناني الذي مثّله رئيسا الجمهورية والحكومة في القمّة العربية، علمًا أنّ كلمة الرئيس ميشال عون لقيت ترحيبًا من مختلف القادة العرب بوصفها وجدانية واستثنائية وجريئة، في وقتٍ رأى كثيرون أنّ العرب هم من اقتربوا من الموقف اللبناني في هذه القمّة لا العكس، بدليل "التوازن" الذي سعوا لإرسائه في البيان الختاميّ للقمّة، خصوصًا في مقاربة الملفات الساخنة التي ترزح تحتها المنطقة.

علاقة متينة...

وأبعد من العلاقات اللبنانية-السعودية التي وُضِعت على المسار الصحيح، فإنّ الأكيد أنّ "رمزيّة" اصطحاب الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز لرئيس الحكومة سعد الحريري على طائرته الملكيّة الخاصة له دلالاتٌ كبيرة على صعيد العلاقة "الشخصية" بين الجانبين، التي مرّت بفتورٍ نسبيٍ كبيرٍ في الآونة الأخيرة، دفع البعض لحدّ القول أنّ الحريري ممنوعٌ من زيارة السعودية، وأنّ الملك السعوديّ يرفض إعطاءه أيّ موعدٍ لاستقباله.

هكذا، أتى "الاحتضان" السعودي ليضع حداً لهذه الأقاويل، وليوحي أنّ العلاقة بين السعودية والحريري بدأت تعود تدريجياً لطبيعتها، علمًا أنّ رئيس الحكومة اجتمع مع ولي ولي العهد السعودي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز في مكتبه، حيث تمّ استعراض العلاقات الثنائية والمستجدّات في المنطقة.

ولا شكّ، انطلاقاً من ذلك، أنّ السعودية أرادت بمبادرتها الإيجابية إزاء الحريري، ولو لم تتعدّ الشكل، القول أنّها لم تتخلّ عنه، بخلاف كلّ ما رُوّج في الآونة الأخيرة، وبالتالي أنّها لم تتخلّ عن لبنان ككلّ، علمًا أنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ المملكة ليست بوارد التنازل عن الورقة اللبنانية في هذه المرحلة، ولهذا فهي تقوم بإعادة تقييم ومراجعة لسياساتها فيه، خصوصًا بعدما فقدت العديد من الأوراق الأخرى، وفي مقدّمها الورقة السورية، الأمر الذي تُرجِم بالبرودة الفائقة التي تعاملت فيها القمّة العربية مع الأزمة السورية، في ظلّ الدعوة للحلّ السياسي، من دون أيّ إدانة للنظام أو دعمٍ للمعارضة على جري العادة.

رغم ذلك، لا يفترض تحميل المبادرة السعودية أكثر ممّا تحتمل، فهي، وإن أرسلت رسائل إيجابية للحريري، ومن خلفه لمنافسيه ممّن يطمعون بانتقال الرعاية السعودية إليهم، إلا أنّها في المقابل لم تطلق يده بشكلٍ كامل، ما يعني أنّ "مهلة السماح" التي أعطيت له لم تنتهِ بعد، وبالتالي يمكن القول أنّ هذه الإيجابيّة محدودة في "الظاهر"، وترجمتها تبقى مؤجَّلة إلى أجَلٍ غير مسمّى، قد لا يكون قريبًا.

حلم صعب التحقّق؟!

في النهاية، قد يكون من السابق لأوانه القول أنّ الحريري عاد، قولاً وفعلاً، إلى "أحضان" المملكة العربية السعودية، باعتبار أنّ الرسائل الإيجابية التي وُجّهت له تبقى "شكليّة"، وبلا ترجمة، علمًا أنّها برأي كثيرين قد لا تتخطّى سقف "المناورة"، باعتبار أنّ السعودية تلعب في الوقت الحاضر على أكثر من خط، بانتظار "حسم موقفها".

ولكن، أياً كان الواقع، فإنّ الأكيد أنّ الحريري سيعتبر أنّه حقّق "انتصاراً" على خصومهفي الساحة السنية بالخطوة "الرمزية" التي تحقّقت، وسيبقى "الحلم" بتتويجه مع إعادة تحريك الهبة السعودية المجمّدة... "حلمٌ" يبدو، أقلّه حتى الساعة، مجرّد "وهمٍ" صعب التحقّق!