قيل وكُتب الكثير عن أهداف ورسائل الضربات الصاروخيّة الأميركية التي إستهدفت ​مطار الشعيرات العسكري​، لكنّ المضمون الفعلي لهذا التحرّك العسكري الأميركي يختلف عمّا أمكن إستنتاجه في التعليقات الأوّلية.

في الشكل شكّلت الضربات الصاروخيّة ردًا عسكريًا أميركيًا على إستهداف طائرات الجيش السوري بلدة "خان شيخون" في إدلب بأسلحة كيميائيّة(1)، وكأنّه عمل إنقاذي بأبعاد إنسانيّة ويستحقّ التنويه! وفي الشكل أيضًا ظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب بموقع القائد الحازم والذي لا يتردّد بتنفيذ التهديدات التي يُطلقها بعكس سلفه الرئيس باراك أوباما الذي تميّز عهده بالتردّد والإنكفاء، الأمر الذي ألحق في السابق ضررًا فادحًا بالهيبة الأميركية على مُستوى العالم، وسمح ل​روسيا​ بتعبئة الفراغ الذي أحدثه الغياب الأميركي عن ساحات عالميّة حامية عدّة. وفي الشكل أيضًا، جرى التشكيك بالفعاليّة العسكريّة لهذا الهُجوم، بغضّ النظر عن حجم الخسائر غير المنطقي الذي أعلنه النظام السوري، وحتى المحدود الذي أعلنته في المُقابل مصادر "المُعارضة السوريّة"(2)، باعتبار أنّ القُدرة التدميرية لما مجموعه 59 صاروخًا Tomahawk أو حتى لما مجموعه 23 صاروخًا(3)برأس مُتفجّر يزن 450 كلغ. لكل منها، يجب أن تكون قوّتها التدميريّة هائلة في مساحة جغرافيّة محصورة، أقلّه من الناحية المادية، في حال سلّمنا جدلاً أنّه جرى إخطار الوحدات العسكريّة المُتمركزة في المطار بإخلائه قُبيل وقوع الهجوم. لكنّ هذا الأمر لم يحصل، حيث ذكرت المعلومات أنّ المطار المُستهدف عاد إلى العمل جزئيًا، بتبرير أميركي أنّ القصف لم يستهدف المُدرّجات، علمًا أنّه لو جرى قصفه بمدفعيّة ميدان من طراز 155 ملم. لكان خرج نهائيًا من الخدمة لأيّام عدّة(4)، فكيف بالحري بصواريخ مُجنّحة "ذكيّة" كل منها قادر وحده على تدمير مبنى بكامله!.

وفي كل الأحوال إنّ مضمون هذا الهجوم الصاروخي لا يرتبط بإضعاف قُدرات الجيش السوري العسكريّة في المنطقة المُستهدفة، ولا حتى على مُستوى الأسلحة الكيميائيّة الّتي لا تزال بحوزته. ولا يرتبط أيضًا بتوجيه رسالة تنبيه حازمة إلى الرئيس السوري بشّار الأسد بعدم تكرار مثل هذه التجاوزات. فموقع الرئيس السوري بمنأى عن الضربة العسكريّة الأميركيّة، حيث أنّ إزاحته عن الحكم "لم تعد أولويّة أميركيّة"، كما قالت مُمثّلة واشنطن في مجلس الأمن الدَولي، نيكي هيلي، علمًا أنّ إطاحة الرئيس الأسد من موقعه لم تكن يومًا أولويّة للولايات المتحدة الأميركيّة ولا لكثير من الدول الغربيّة الأخرى التي دعمت جزءًا من القوى المُعارضة، وذلك بسبب عجز هذه القوى عن تأمين البديل القادر على ضبط الساحة السوريّة، وبسبب خوفها من تحوّل سوريا إلى دولة فاشلة مليئة بالفوضى وبالمُسلّحين المُتعدّدي الولاءات الخارجيّة، بشكل يُهدّد أمن إسرائيل وإستقرارها، وينسف الوضع الأمني الحُدودي المضبوط بين سوريا وإسرائيل منذ أكثر من أربعة عُقود، على الرغم من الهجمات الإسرائيلية المُتكرّرة على الأراضي السوريّة.

ويُمكن القول إنّ الخلفيّات الفعليّة للضربة الصاروخيّة الأميركيّة تندرج ضُمن خطّة مُهمّة تُعدّها ​الولايات المتحدة​ الأميركيّة لتأمين عودتها الفعّالة إلى الشرق الأوسط وسوريا بالتحديد، حيث أنّ الإدارة الأميركيّة الجديدة ترفض أن تكون واشنطن مُستبعدة عن الملفّ السوري، ولن تقبل بأن تكون الحلول المُرتقبة في المُستقبل مرسومة وفق مصالح كل من روسيا وتركيا وإيران، من دون الأخذ في الإعتبار المصالح الأميركيّة. وبالتالي، الموضوع أبعد من إثبات الرئيس ترامب لجدّيته، وأعمق من إستعادة الهيبة الأميركيّة العالميّة، وهو مُرتبط بتمهيد الطريق لعودة واشنطن إلى طاولة المُفاوضات الرئيسة الخاصة بالوضع في سوريا، وبأيّ ملف آخر حسّاس أو مُتفجّر في العالم. إشارة إلى أنّه من المُنتظر أن تكون التطوّرات في سوريا والضربة العسكريّة الأميركيّة الأخيرة فيها، مدار بحث-إلى جانب غيرها من المواضيع(5)، في موسكو هذا الأسبوع، بين كل من وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون ونظيره الروسي سيرغي لافروف.

وبحسب المعلومات المُتوفّرة أيضًا، إنّ الإدارة الأميركيّة تنوي في المُستقبل القريب، طرد تنظيم "داعش" الإرهابي من محافظة الرقّة السوريّة، وهي ستتدخّل جزئيًا في المعارك المُنتظرة قريبًا، لتأمين الدعم والتغطية لقوات "حليفة"، بعضها نظامي وأخرى شعبيّة، سيتم إشراكها في العمليات العسكريّة. والخطة نفسها تقضي بتحويل مُحافظة الرقة، بعد طرد إرهابيّي "داعش" منها، إلى منطقة آمنة تحضن الكثير من اللاجئين السوريّين المُعارضين للنظام، وإلى نواة ميداني لأي مشروع تقسيمي مُستقبلي لسوريا، وكذلك إلى ورقة تفاوض مُهمّة بيد واشنطن على طاولات المُفاوضات المُقبلة. وترغب واشنطن من اليوم، بوضع حُدود لأيّ مُحاولات خارجيّة لعرقلة مشروعها المذكور، والضربة الصاروخيّة الأخيرة تدخل في سياق توجيه الرسائل، لروسيا بالدرجة الأولى، ومن خلفها لكل من إيران وباقي القوى التي تدعم النظام السوري، بأنّها أكثر من جدّية في تنفيذ مشروعها، وبأنّها لن تتوانى عن التدخّل عسكريًا-إن لزم الأمر، لإنجاح هذا المشروع وتثبيته، مع العلم أنّ الدفاعات الأرضيّة الروسيّة في سوريا لم تتدخّل لاعتراض الصواريخ الأميركيّة وهي تضرب القاعدة العسكريّة السوريّة. فكيف ستتقبّل روسيا المشروع الأميركيّ الذي يُحضّر للرقة ولسوريا، بعد الرسالة النارية التي تلقّتها؟ الأسابيع المُقبلة ستحمل الإجابة، خاصة إذا ما كانت التهديدات الروسيّة الحاليّة بنشر المزيد من الصواريخ الإعتراضيّة ستُنفّذ...

(1) تسبّب القصف بمقتل 87 شخصًا، بينهم 31 طفلاً، بحسب مصادر "المُعارضة السوريّة".

(2) تحدّث النظام السوري عن مقتل 6 عسكريّين و9 مدنيّين، بينما تحدّثت المُعارضة عن مقتل 40 ضابطًا وعسكريًا سوريًا.

(3) وزارة الدفاع الروسيّة تحدّثت عن إصابة 23 صاروخًا فقط القاعدة الجوية في الشعيرات، جنوب شرق مدينة حمص، من دون أن تُوضح أماكن إستهداف باقي الصواريخ التي قيل إنها أطلقت من البوارج العسكريّة الأميركيّة.

(4) تُعتبر دائرة بقطر 50 مترًا إصابة مُباشرة لقذيفة مدفعيّة كلاسيكيّة من طراز 155 ملم.

(5) من بينها الوضع في أوكرانيا، والتهديد الذي تُشكّله كوريا الشمالية على الإستقرار العالمي، والسياسة العالمية الرامية إلى مُحاربة الإرهاب، إلخ.