مجدّداً، فعل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ما لم يجرؤ أحدٌ من أسلافه على فعله، حين استخدم صلاحيّاته الدستوريّة لتأجيل انعقاد مجلس النواب لمدّة شهرٍ، مكرّسًا مرّةً أخرى مقولة "الرئيس القوي" المختلف في الشكل والمضمون عن كلّ من سبقوه.

وحتى لو صحّ أنّ خطوة الرئيس أتت منسّقة مع مختلف الفرقاء، بدليل أنّها لم تستفزّ أحداً، بل إنّ الجميع تلقّفوها بإيجابيّة، إلا أنّها أتت لتدحض بشكلٍ أو بآخر منطق الرؤساء السابقين الذين فضّلوا البكاء على أطلال الصلاحيات، بدل محاولة الاستفادة منها، ولو بالحدّ الأدنى.

ولكن، ماذا بعد هذه الخطوة؟ ماذا لو مرّ الشهر من دون تحقيق التوافق المنشود حول ​قانون الانتخاب​، والذي تعذّر الوصول إليه خلال ثماني سنواتٍ؟ هل من صلاحيّاتٍ أخرى يمكن للرئيس استخدامها لمنع النواب من التمديد لأنفسهم، أم أنّه رفع المسؤوليّة عن نفسه؟

عودة الهيبة للرئاسة؟

قليلون جداً في لبنان من كانوا يعلمون، قبل يوم الأربعاء الماضي، أنّ رئيس الجمهورية، الذي فقد صلاحية حلّ مجلس النواب بعد ​اتفاق الطائف​، يستطيع تعطيل مجلس النواب لشهرٍ واحدٍ في العقد النيابي الواحد. وقليلون جداً من الخبراء الدستوريين أيضًا من تنبّهوا لهذه الصلاحيّة وأشبعوها درسًا، الأمر الذي يفسّر اللغط الذي أثير حول دستوريّتها وحاجتها لمرسوم أو لتوقيع رئيس الحكومة، فضلاً عن مدى قدرة الرئيس على استخدامها لأكثر من مرّة في عهده.

وإذا كان ذلك عائدًا ببساطة لكون هذه الصلاحيّة لم تُستخدَم من قبل أيّ رئيسٍ للجمهورية قبل العماد عون منذ العام 1926، فإنّها شكّلت مفاجأة بالنسبة لكثيرين، خصوصًا أنّ الرؤساء السابقين، وجلّهم من أصحاب اللون "الرماديّ" والنكهة "الوسطيّة"، لم يفكّروا يومًا باستخدام مثل هذه الصلاحيّة، الأمر الذي كرّس النظريّة القائلة بأنّ صلاحيّات رئيس الجمهورية ما بعد الطائف لا تتخطّى ترؤس جلسات مجلس الوزراء "إذا حضروها"، واستقبال السفراء والدبلوماسيين، وفي أحسن الأحوال، تقليد الأوسمة والميداليات.

هكذا، أثبت رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أنّ المشكلة ليست في الرئاسة، ولو "عرّاها" البعض من صلاحيّاتها وقدراتها عن سابق تصوّر وتصميم، بل في الرؤساء الذين رضوا بالأمر الواقع ورضخوا له، ولم يفكّروا بالتمرّد عليه، ولو بما هو مُتاح بين أيديهم. ويكفي للدلالة على ذلك المقارنة بين خطوة الرئيس عون وما فعله "سلفه" الرئيس السابق ​ميشال سليمان​، الذي يتغنّى في كلّ المناسبات بإنجاز "إعلان بعبدا" الذي حقّقه في عهدٍ شهد على تمديدَين للمجلس النيابي، كان سليمان للمفارقة معارضًا لهما، لكنّه تعامل معهما وفق مقولة "لا حول ولا قوة"، مكتفيًا ببيانات التنديد الإنشائية، لا أكثر ولا أقلّ.

بطبيعة الحال، لا يعني ذلك زيف ما كان يُقال خلال السنوات الماضية عن أنّ رئيس الجمهورية فقد دوره المؤثّر، عندما سُحِبت منه الكثير من الصلاحيات بعد اتفاق الطائف، ولو كان يتمتّع بـ"فائضٍ" منها قبل ذلك التاريخ، كما يرى كثيرون، وخير دليلٍ على ذلك ما بدأ يتسرّب عن فقدان الرئيس للقدرة على مواجهة التمديد في حال الإصرار عليه بعد استنفاد مهلة الشهر. إلا أنّ ما لا شكّ فيه أنّه، على الأقلّ، أعاد الهيبة التي لطالما افتقدتها الرئاسة، التي حوّلها البعض، عن حسن أو سوء نيّة، لـ"ملحقة"، بشكلٍ لا يفترض أن يكون مطابقاً للواقع والحقيقة.

ماذا بعد؟

أثبت رئيس الجمهورية أنّه قادرٌ، ولو بالحدّ الأدنى، على تسجيل مواقف يتخطّى من خلالها صياغة البيانات الإنشائية. ولكن، ماذا بعد خطوته الدستوريّة؟ هل يكتفي بها، كمن يرفع المسؤولية عن نفسه، أم يلجأ إلى خطواتٍ أخرى، قد تكون معنويّة، للحؤول دون الوصول إلى "يومٍ أسود" لا يشكّ أنّه سيشكّل انتكاسةً لعهده، لن تكون أبداً لصالحه؟.

هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الخطوات التي يمكن لرئيس الجمهورية أن يلجأ إليها بعد انتهاء مفاعيل "شهر العطلة" الذي منحه لمجلس النواب ليست كثيرة من الناحية الدستورية والقانونية. وفي هذا السياق، لو فرضنا أنّ التوافق المنشود لم يقع خلال هذا الشهر، وأقرّ النواب مشروع قانون التمديد الذي تقدّم به النائب ​نقولا فتوش​ في الجلسة التي حدّد رئيس المجلس النيابي نبيه بري موعدها في الخامس عشر من أيار المقبل، فإنّ كلّ ما يستطيع الرئيس أن يفعله هو أن يردّ القانون، متى وصله، من باب المماطلة لا أكثر ولا أقلّ. ولكن، ولأنّ القانون معجّل مكرّر، فإنّ ردّ القانون يجب أن يحصل خلال خمسة أيام فقط، وبعد ذلك، يمكن للنواب أن يعيدوا درسه وإقراره، من دون الحاجة لموافقة رئيس الجمهورية. وفي السياق عينه، يمكن للرئيس اللجوء لخطوة من نوع توجيه رسالة للمجلس النيابي يطلب فيها من النواب عدم إقرار قانون التمديد مثلاً، إلا أنّ هذه الرسالة تبقى غير ملزمة، وكلّ ما تفترضه أن يخصّص مجلس النواب جلسة لمناقشتها، وينتهي الأمر عند هذه الحدود.

وعلى الرغم من محدوديّة الصلاحيات الدستورية والقانونية المتبقية لرئيس الجمهورية، إلا أنّ ما لا شكّ فيه في المقابل أنّ المطلوب منه، حمايةً لفكرة "الرئيس القوي"، التي أراد تكريسها منذ اليوم الأول لوصوله إلى قصر بعبدا، أن يستكمل تحرّكه بصورةٍ عمليّةٍ، خصوصًا أنّ الوقت بدأ يضيق فعليًا لإنتاج قانونٍ الانتخاب الذي وضعه عنوانًا لخطاب القسم الذي تلاه بعيد انتخابه رئيسًا للجمهورية، خصوصًا أنّ نواباً عجزوا عن القيام بمسؤوليّاتهم خلال ثماني سنوات لن يتمكّنوا من فعل ذلك خلال شهر، إن لم يتعرّضوا للضغط اللازم لذلك.

ولعلّ الخطوة الأولى التي يمكن لرئيس الجمهورية أن يعمد إليها، مباشرةً بعد عطلة ​عيد الفصح​ ومن دون إبطاء، هي دعوة مختلف الفرقاء لـ"خلوة" يشارك فيها جميع الفرقاء، علمًا أنّ هذه الفكرة كانت مطروحة في وقتٍ سابق، وقد سبق أن تقدّم بها رئيس حزب "الكتائب" النائب ​سامي الجميل​ بصفة "مبادرة"، على أن تكون مثل هذه الخلوة "نسخة منقحة" عن ​اتفاق الدوحة​ الشهير، بشرط أن تكون لبنانيّة قلباً وقالباً، من دون حاجة لرعايةٍ خارجيّة. وأبعد من ذلك، قد يكون مطلوباً من رئيس الجمهورية أن يلعب دوراً معنويًا مؤثّراً على بعض الأحزاب التي يفترض أنّه "يمون" عليها، وعلى رأسها "حزبه" ما قبل الرئاسة، لتقديم بعض التنازلات، للتوصّل إلى قانونٍ عصري وحضاري، يشبه "العهد القوي"، بدلاً أن يكرّس طائفيّةً بغيضةً لا تخدمه بأيّ شكلٍ من الأشكال.

سيناريوهان اثنان...

سيناريوهان يرجى أن يكون هناك ثالث لهما قد تكون خطوة رئيس الجمهورية مهّدت لهما، أولهما أن يكون قد رفع المسؤولية عن نفسه، فيظهر التمديد للمجلس النيابي بعد استنفاد مهلة الشهر "قسريًا" فعل الرئيس كلّ ما يستطيع لمنعه من دون أن ينجح، في "مشهديّة" جديدة تشبه ما سبقها.

أما السيناريو الثاني، فأن يكون ما حصل مقدّمة للوصول إلى قانونٍ انتخابي "كيفما كان"، على وقع "الضغط"، وبعيدًا عن كلّ الشعارات التي رفعها الرئيس عون وتنصّل منها أقرب المقرّبين منه، وهذا أخطر ما في الأمر من دون شكّ، وعلى الرئيس أن يحاربه قبل غيره...