لم يَعد من المَقبول أو المَعقول السُكوت عن مِئات الضحايا الذين يَسقطون سنويًا في لبنان كنتيجة مباشرة لقاتلين خطيرين، الأوّل قاتل مُتهوّر يحصد ضحاياه على الطرقات اللبنانيّة نتيجة إهمال مُزمن ومُستمرّ للبنى التحتيّة وللطرقات وبفعل تهوّر وإنعدام أخلاق بعض السائقين، والثاني قاتل مُجرم يستخفّ بخطف أرواح من يختلف معهم بسبب تفلّت الأمن المُجتمعي وإنفلاش السلاح بأيدي المُواطنين، وغياب المُحاسبة القضائيّة الرادعة، وتوفير بعض السياسيّين مِظلّة حماية لأزلامهم. فإلى متى إسترخاص حياة الناس في لبنان؟.

قبل العام 1983 كان عدد ضحايا ​حوادث السير​ في لبنان لا يتجاوز المئتي شخص في السنة، وبعد عقد تقريبًا على ذلك، أي إعتبارًا من العام 1994 صار العدّاد السنوي لقتلى الحوادث المُروريّة على الطرقات اللبنانيّة يتجاوز عتبة 300 ضحيّة سنويًا. وفي ظلّ إستمرار النموّ السُكاني، وتكاثر عدد السيارات والسائقين على الطرقات، من دون تسجيل أيّ تحسن يُذكر في البنى التحتيّة، أو في الضوابط الأخلاقيّة الذاتية للسائقين، أو في تشدّد القوى الأمنية في تطبيق قوانين السير حيث يجب وكما يجب، إرتفع الرقم المأساوي للضحايا مُجدّدًا بحيث صار يتجاوز عتبة 400 قتيل سنويًا إعتبارًا من العام 2007. وفي قراءة سريعة للإحصاءات الرسميّة الخاصة بضحايا حوادث السير في العقد الأخير، نجد أنّ نحو 500 قتيل صاروا يسقطون على طرقات لبنان سنويًا، بموازاة نحو 5,000 إلى 6,000 جريح. وتُقدّر قيمة الخسائر المالية الناجمة من حوادث السير والتي تشمل تكاليف التعويضات والعلاجات الإستشفائيّة وصيانة الأضرار الإقتصادية وغيرها، بما لا يقلّ عن مليار دولار سنويًا. يُذكر أنّ لبنان يحتل مرتبة متأخرة جدًا على صعيد جودة ونوعيّة الطرقات، وتحديدًا المرتبة 120 من أصل 144 دولة، بحسب دراسة أجرتها "مجموعة البنك الدولي". وفي السياق عينه، إشارة إلى أنّه على الرغم من بدء سريان ​قانون السير الجديد​ إعتبارًا من نيسان 2015، وعلى الرغم من تحرير مئات آلاف محاضر الضبط (جزء كبير منها مرتبط بالسرعة الزائدة)، لم يُسجّل أي تراجع مُهمّ في عدد الضحايا، نتيجة ضرب مجموعة كبيرة من السائقين عرض الحائط كل القوانين المُروريّة، وبفعل حصر تشدّد القوى الأمنيّة في إجراءاتها ببعض الطرقات السريعة العريضة في أغلبيّة الأوقات، وليس على التقاطعات الخطرة وضمن طرقات داخلية ضيّقة أو حتى سريعة لكن مُزدحمة، وكأنّ الهدف هو تحصيل أكبر قدر مُمكن من محاضر الضبط، وليس تعزيز السلامة فعليًا على الطرقات! وهذا الأمر غالبًا ما يُؤدّي إلى إفلات السائقين الذين يقودون بتهوّر بين السيارات ويُنفّذون مناورات تبديل سريع للمسار، من العقاب، شأنهم شأن بعض سائقي الشاحنات والباصات المُتهوّرين أيضًا، ليتسبّبوا في نهاية المطاف بمآسٍ دامية لسائقين آخرين يحترمون قوانين السير بحذافيرها.

وبالإنتقال إلى "القاتل" الثاني للبنانيّين في زمن السلم، وهو مُجرم عن سابق الإصرار والتصميم، وليس قاتلاً عن غير قصد كما في حالة السائقين المُتهوّرين، فإنّه يسرح ويمرح بدوره حاصدًا أرواح العديد من الآمنين، تارة في خلافات عائليّة وطورًا في خلافات فرديّة، وبجرائم عشوائية في بعض الأحيان وبجرائم مُنظّمة في أحيان أخرى. ومن الغيرة والخيانات العاطفيّة وتحصيل الشرف المَزعوم، مُرورًا بالخلافات المالية وأعمال الثأثر العشائريّة والمشاكل السياسيّة والمذهبيّة والعرقيّة، وُصولاً إلى القتل بدافع السرقة وغيرها العشرات من الأسباب الأخرى، يسقط الكثير من اللبنانيّين سنويًا بدم بارد. وفي العام 2016 الماضي، تمّ إحصاء سُقوط 125 قتيلاً بجرائم قتل مُختلفة، والأرقام منذ بداية العام الحالي حتى تاريخه لا تُبشّر بالخير أيضًا. وعلى الرغم من الجُهود المُضنية التي تقوم بها الأجهزة الأمنيّة الرسميّة المُختلفة، لتوقيف الفاعلين والمُتورّطين والمُتدخّلين، ونجاحها في تحقيق ذلك في العديد من الأحيان بشكل يستحقّ التنويه، فإنّ غياب العُقوبات القضائيّة الرادعة، وغياب المُواكبة الإعلاميّة لإصدار الأحكام والعقوبات نِسبة إلى حجم هذه التغطية عند حُصول الجريمة نفسها، أسفر عن جُنوح بعض الأشخاص نحو إستسهال أعمال القتل، خاصة من يستفيد من غطاء حزبي أو سياسي أو مذهبي يُوفّر له السلاح والزجاج الداكن لسيارته والدعم السياسي والقضائي في الأزمات. وبحسب الخبراء النفسيّين فإنّ عوامل عدّة مُجتمعة تقف وراء ظواهر القتل، تبدأ بالعِقد والضغوط النفسيّة والعصبيّة التي تسبّبت بها الحرب في لبنان ثم الحروب المُتواصلة في المنطقة، وتمرّ في تعميم ظاهرة حمل السلاح والإستقواء بأحزاب وبشخصيّات سياسيّة وبزعامات مناطقية وطائفيّة، وتصل إلى إنعدام الأخلاق والتربية المُهذّبة والتنشئة السلميّة والسليمة لكثير من الأشخاص في لبنان.

في الخلاصة، وبغضّ النظر عن الأسباب، إنّ سقوط مئات اللبنانيّين سنويًا بحوادث مرور وبجرائم قتل، ليس بالأمر المَقبول على الإطلاق، والخطورة تكمن في تعايش الكثيرين مع هذا الأمر، وكأنّه ظاهرة طبيعيّة تحصل في كل البلدان، بدلاً من الشروع في مُعالجتها بكل الوسائل المُتاحة، بدءًا بكل الحزم المطلوب من الدولة وأجهزتها الرسميّة والأمنيّة والقضائيّة، مُرورًا بكل التوعية المطلوبة من المدارس والهيئات والجمعيّات غير الحكومية والصُروح الدينيّة، وُصولاً إلى كل التربية الصالحة المطلوبة من الأهل وأفراد العائلة. فالنأي بلبنان عن الحروب وحمايته قدر المُستطاع من التفجيرات الإرهابيّة، يجب أن يتكامل مع تحصين المُجتمع اللبناني من "قاتلين" إثنين لا يقلان خطورة، لا يزالان يسرحان ويمرحان في ربوعه، مُهدّدين يوميًا حياة الكثيرين من دون حسيب أو رقيب.