منذ ما قبل انفتاح "تيار المستقبل" على كافة الفرقاء مع انطلاقة العهد الجديد وعودة رئيسه ​سعد الحريري​ إلى السراي الحكومي، والعلاقة بينه وبين خصمه الأبرز في الداخل، أي "حزب الله"، مضبوطة إلى حدٍ بعيد، الأمر الذي يؤكده صمود الحوار بين الجانبين، حتى في عزّ أيام الانقسام والخلاف.

ولكن، خلال الأيام القليلة الماضية، بدأت تتسرّب أجواء توحي وكأنّ هذا الحوار مهدَّدٌ بحدّ ذاته، وأنّ العلاقة آخذةٌ في التدهور أكثر فأكثر، بدليل أنّ جلساته أصبحت متباعدة جداً، بل إنّ أيّ جلسةٍ منه لم تُعقَد منذ السادس من شباط الماضي، حتى أنّ أيّ موعدٍ لم يحدد للجلسة بعد تأجيلها ثلاث مرّاتٍ متتالية.

فهل يمكن القول أنّ "المساكنة" التي ارتضاها الخصمان الأبرز على الساحة اقتربت من نهايتها؟ وهل يتحمّل البلد مثل هذا "الطلاق"، حبيًا كان أم غير حبي، إن حصل؟!.

مؤشراتٌ كثيرة...

بدايةً، لا شكّ أنّ المؤشّرات التي تدلّ على وجود "خللٍ" ما على خط العلاقة بين "تيار المستقبل" و"حزب الله" تبرز بوضوح من خلال التأجيل المتكرّر للجولة الحادية والأربعين من الحوار بينهما، وعدم تحديد موعدٍ لها بعد تأجيلها للمرّة الثالثة في العاشر من نيسان الجاري. وإذا كان المعنيّون يبرّرون هذا التأجيل بالتزامات المشاركين في الحوارات الأخرى، كما حصل في الجلسة الأخيرة التي "تزامنت" مع اجتماعٍ آخر في عين التينة، فإنّ مثل هذه التبريرات قد لا تبدو مقنعة، متى تكرّرت، خصوصاً أنّ الحوار يفترض أن يكون "التزاماً مسبقاً" أصلاً، والمتعارَف عليه أنّ السياسيين يعتذرون عن تلبية أيّ دعوة، متى "تزامنت" مع التزامٍ مسبق.

وعلى الرغم من أنّ نقاط الاختلاف والتباين بين "تيار المستقبل" و"حزب الله" ليست بجديدة، إلا أنّها عادت إلى الظهور بقوّة في المرحلة الأخيرة مع عودة الاشتباك الإقليمي إلى دائرة الضوء، خصوصًا مع وصول الرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ إلى البيت الأبيض، وانتفاضته على سياسة سلفه الرئيس الأسبق ​باراك أوباما​ تجاه ​إيران​، الأمر الذي أدّى تلقائيًا إلى عودة الخلافات الخليجية الإيرانية، وخصوصًا السعودية الإيرانية. ولعلّ تطورات ​الأحداث السورية​ في الأسابيع الماضية ساهمت أيضاً في زيادة التباعد، خصوصًا بعد ما وُصِف بمجزرة خان شيخون، التي حمّل "تيار المستقبل" مسؤوليتها للنظام السوري، حليف "حزب الله"، فيما اعتبرها الأخير "مفبركة"، وصولاً إلى الضربة الأميركية على سوريا، التي رقّاها الحزب لمستوى "العدوان"، فيما لم يتوانَ التيار "الأزرق" عن الترحيب بها والتهليل لها.

وفي حين يُحكى في الكواليس عن استياءٍ "مستقبليّ" من المقاربة التي يتعاطى بها "حزب الله" مع ​قانون الانتخاب​، خصوصًا أنّه يشتمّ منها رغبةً بتقليص حجمه، وفتح المجال لخصومه في الساحة السنيّة، حلفاء "حزب الله"، لمقاسمته "المغانم الانتخابية"، أتت الجولة الحدودية الإعلامية التي قام بها الحزب لتزيد الطين بلّة، إذ اعتبرها "المستقبل" وكأنّها تستهدف رئيس الحكومة سعد الحريري شخصيًا، باعتبار أنّ التوقيت لم يكن ملائمًا أبدًا لـ"إحراج" الحكومة و"حشرها في الزاوية"، كما حصل عندما طالبها البعض بدعوة الحزب إلى "الكفّ عن مثل هذه الخطوات الاستفزازية"، وهو ما أدرك الحريري استحالته، فاستعاض عنه بجولةٍ جنوبية موازية حاول من خلالها "تعويض ما فات".

التفجير غير مطروح

إزاء ما تقدّم، قد يكون صحيحًا أنّ العلاقة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" ليست في أفضل أحوالها، وأنّ كلاهما مستاءٌ من الآخر لاعتباراتٍ شتّى، وأنّ نقاط التباين والاختلاف أكثر من أن تعدّ وتحصى، وبالتالي، أنّ ما يفرّق بينهما أكثر ممّا يجمع.

لكن، متى كانت العلاقة بينهما أصلاً في أفضل أحوالها، منذ اغتيال رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​ وحتى اليوم؟ ومتى كان ما يجمع بينهما أكثر ممّا يفرّق؟ ثمّ، ألم يكن هذا الاختلاف شبه الكامل حول كلّ شيء هو الدافع والمحفّز لإطلاق الحوار الثنائي فيما بينهما؟ وإلا، فأيّ معنى لهذا الحوار، الذي وُضِع "تنفيس الاحتقان" عنوانًا أساسيًا له؟.

تقود كلّ هذه الأسئلة إلى خلاصةٍ واحدةٍ، وهي أنّ تصاعد الخلاف بين "تيار المستقبل" و"حزب الله" هو الذي يفترض أن يعزّز قناعة الجانبين بضرورة الاستمرار في الحوار المشترك بينهما، وذلك تفاديًا لنقل الخلاف إلى الشارع، وهنا الخطورة، وهنا أيضاً لبّ الحوار وجوهره في أًصله، كما يعلم القاصي والداني، علمًا أنّ هناك وجهة نظر يروّج لها المقرّبون من الحريري بأنّ مجرّد تواجد وزراء "حزب الله" و"تيار المستقبل" جنباً إلى جنب على طاولة مجلس الوزراء يحقّق غاية الحوار، فتنتفي بالتالي الحاجة لتكثيف جلساته في هذا الوقت "المستقطع".

وفي حين يرى البعض أنّ تعمّد تأجيل جلسات الحوار من دون نعيه لا يدلّ إلا على وجود رغبة مشتركة بالحفاظ عليه، وحتى لا يتمّ "تفجيره" من الداخل، فإنّ الأكيد أنّ مقوّمات مثل هذا "التفجير" ليست موجودة في الوقت الراهن، ليس لأنّ هذا الحوار مرّ بأكثر من قطوع أصعب وأخطر بأشواط ممّا يمرّ به اليوم فحسب، بل لأنّ الحريري، الذي يبدي سياسة "انفتاحية" مدروسة على جميع الفرقاء في الداخل من دون استثناء، حريص أشدّ الحرص على الحفاظ على علاقته بـ"حزب الله"، وبالتالي "حركة أمل"، في الوقت الحاليّ، وهو غير مستعدّ للتفريط بها، كونها تقدّم له "الضمانات" التي يحتاجها، خصوصًا أنّه يدرك أنّ العودة إلى السراي بعد الانتخابات النيابية مشروطةٌ بموافقتهما على ذلك، أو غضّ النظر وعدم استخدام "الفيتو" في وجهه في أفضل الأحوال.

الحوار باق...

في جلسة مساءلة الحكومة الأخيرة، اختار عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب علي عمار أن "يصحّح" عبارة "مطار بيروت الدولي" التي وردت على لسان رئيس الحكومة سعد الحريري، لتصبح "مطار رفيق الحريري الدولي"، على حدّ تعبيره. البعض قرأ في الأمر "مزايدةً"، في مكانها أو في غيره، والبعض الآخر رأى فيها إشارة "تودّد" إلى الحريري من الحزب الذي لم يسمّه أصلاً لرئاسة الحكومة.

أياً كان الأمر، بدت هذه "الرسالة" أشدّ وقعًا ودلالةً من حوارٍ لم يرَ اللبنانيون صورةً له أصلاً، ولكنّه مستمرّ طالما أنّ أحداً ليس مستعدًا لأيّ مغامرةٍ غير محسوبة النتائج، على كلّ الصعد، من مصالح الجانبين السياسية المتبادلة، إلى الواقع الأمنيّ المحصّن حتى إشعارٍ آخر...