بعدما ضيَّعَ "ممثّلو الأمّة" ثماني سنواتٍ كاملة من دون التوصّل إلى توافقٍ على قانون انتخابٍ يخلف قانون الستّين سيّءَ الصّيت، مُكتَفِين برفض بعض المشاريع التي طرِحت، على قلّتها، وبعدما أعلنوا صراحةً نيّتهم التمديد لأنفسِهم، وكادوا أن يوقّعوا عليه لولا مهلة الشّهر التي منحهم إيّاها رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، "هبط الوحيُ" عليهم فجأةً.

هكذا، بين ليلةٍ وضُحاها، تقدّم رئيس "اللقاء الديمقراطيّ" النائب ​وليد جنبلاط​ باقتراح قانون، ومثله سيفعل رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الذي بدأ الحديث عن "صيغتَيْن في الجيب"، لكنّ الإعلان عنهما مؤجَّلٌ، وعلى خطاهما يسير "تيار المستقبل" الذي بدأ يتحدّث عن اقتراح قانونٍ يُعِدّ له العدّة، وكذلك "القوات اللبنانية" التي بدأ نوابُها يتحدّثون عن صيغةٍ متطوّرةٍ تمّ طرحُها على "التيّار الوطنيّ الحرّ".

فهل في "الحركة" التي شهدتها أروقة ال​قانون الانتخاب​ي، بشكلٍ مفاجئ، "بركة" فعلاً، أم أنّ الأمرَ لا يعدو كونَهُ "مناورة"، هي أصلاً جزءٌ من "التمثيليّة" للوصول إلى السيناريو المرسوم منذ اليوم الأول؟!

أمرٌ إيجابيٌ؟!

تعليقًا على الاقتراح الذي تقدَّمَ به "الحزب التقدميّ الاشتراكيّ" يوم السبت الماضي، قال رئيس "التيّار الوطنيّ الحرّ" وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​ أنّه "بمجرّدِ أن يبادرَ الحزب التقدمي الاشتراكي في قانون الانتخاب، ويقدّم اقتراحًا أو أفكارًا، بمعزلٍ عن رأينا به، فهذا شيءٌ إيجابيٌّ، ويشكّل خطوةً الى الأمام".

لا شكّ أنّ باسيل، الذي كان "التيار" الذي يرأسه شبهَ الوحيد الذي تقدّم بالطروحات الانتخابية طيلة الفترة الماضية، وإن اتُّهِم بتفصيلها بمُجمَلِها على قياسه بالدرجة الأولى وقياسِ حلفائه بالدرجة الثانية، أراد أن يقول أنّ مجرّد أخذ "الاشتراكيّ" لزمام المبادرة أمرٌ إيجابيٌ، بعدما كانت مهمّته عمليًا "نسفَ" القوانين التي يطرحها باسيل، في سبيل الإبقاء على قانون الستّين، الذي لم يُخفِ يومًا تفضيلَهُ على كلّ ما عداه من قوانين ومشاريع. وبهذا المقصد، ستمتدّ "الإيجابيّة" لتشملَ الجميعَ من دون استثناءٍ، مع "كرّ" سبحةِ الاقتراحات والمشاريع الانتخابيّة في الأيام القليلة المقبلة الفاصلة عن انتهاء مهلةِ الشّهر التي أعطاها رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون للفرقاء للاتفاق على قانون، من رئيس المجلس النيابي نبيه بري، إلى "القوات" و"المستقبل"، وربما غيرهم.

ولكن، أبعد من "الشكل"، هناك وجهة نظر تحتمل الكثيرَ من الصّواب تقول أنّ طرح المشاريع الانتخابيّة بهذه الكثافة في ربعِ السّاعة الأخير ليس بريئًا بأيّ شكلٍ من الأشكال، وهو لا ينمُّ عن إيجابيةٍ خالصةٍ. وفي هذا السياق، يرى كثيرون أنّ صيغة "الاشتراكي" مثلاً، التي أتت بمثابة "نسخةٍ منقّحةٍ" عن الاقتراح "المختلط" الذي سبق أن أشبِع درسًا من دون أن ينال حظّه بالتوافق السياسي عليه، لم تُطرَح إلا لتضييعِ الوقت، وكأنّ "الاشتراكي" يريد أن يرفع المسؤولية عن نفسِهِ عبر القول أنّه حاولَ، علمًا أنّ البعض، ولا سيما من "التيار الوطني الحر" وصفوا اقتراحه بـ"المزحةِ السّمجةِ". وعلى المنوالِ نفسِهِ، ستسيرُ على الأرجح الصّيغُ الأخرى التي ستُطرَح، طالما أنّ لا اتفاق وتوافق على المبدأ العام الذي يفترض أن يشكّل أساس أيّ قانونٍ انتخابيٍ، بين النسبيّ والأكثريّ، وما بين بين، أي المختلط.

خياراتٌ أحلاها مُرّ...

إذا كان الذهاب نحو طرح مشاريع جديدةٍ في ربع الساعة الأخير بدل الركون إلى الصّيغ المطروحة يثير الكثير من علامات الاستفهام، باعتبار أنّ أيّ صيغةٍ تتطلّب وقتاً للنقاش والتمحيص، فإنّ السؤال الأكبر الذي يطرح نفسه: هل هبط الوحي فعلاً على كلّ هؤلاء في اللحظة الأخيرة؟ ولماذا لم يطرحوا شيئاً ممّا لديهم طيلة الأشهر الأخيرة، بل إنّ بعضهم لا يزال يماطل في طرح ما في جعبته، وكأنّ المهل لا تزال مفتوحةً أمامَنا؟.

تقود هذه المقاربة إلى خلاصةٍ قديمةٍ جديدةٍ يبدو أنّها تتأكّد يومًا بعد يوم، خصوصًا مع اقتراب المهل الدستورية والقانونية من النفاد، وهي وضع اللبنانيين أمام ثلاثة خياراتٍ أحلاها مُرٌّ، أي التصديق على قانون "كيفما كان"، مع ما لذلك من خطورةٍ، باعتبار أنّ قانون الانتخاب يجب أن يكون "حجر الأساس" في بناء الكيان اللبنانيّ، أو التمديد للمجلس النيابيّ الحاليّ، وهو المخطط الذي لم يعد خافيًا على أحد أنّ معظم أركان الطبقة السياسية يسعون إليه، أو إجراء الانتخابات وفق قانون الستّين النافذ.

وفي حين لا يزال الخيار الأول، أي التوافق على قانون "كيفما كان" مستبعَدًا، باعتبار أنّ تكثيف المشاريع الانتخابيّة يخدم تضييع الوقت، مع ضمان حصول كلّ من هذه المشاريع على "فيتو" واحدٍ بالحدّ الأدنى كفيلٍ بنسفِهِ، فإنَّ المنافسةَ تبدو شديدةً بين خيارَي التمديد والستّين. وعلى عكس ما قد يعتقد كثيرون، يبدو أنّ أسهم الستّين عادت للارتفاع في الأيام الماضية، حيث وجد مؤيّدوه في مواقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي فضّله على الفراغ أو التمديد "بعثاً للروح" فيه، في وقتٍ بدأت الاجتهاداتُ الدستوريّةُ تبرز عن كونه لا يزال القانون النافذ الذي يجب أن تجرى الانتخابات على أساسِهِ، في حال الوصول إلى الفراغ.

الطاسة ضائعة؟

للوهلة الأولى، قد يظنّ اللبنانيّ أنّ "الوحيَ هبط" على الطبقة السياسية، فبدأ أركانها المختلفون يتناوبون على تقديم مشاريع القوانين الانتخابيّة، وقد يتفاءل بإمكان التوافق على أحدها في الوقت "المستقطع". ولكن، بقليلٍ من الدرس والتمحيص، يدرك اللبناني، وهو يتمنى أن يكون على خطأ، أنّ هذه المشاريع لا تُطرَح في هذا التوقيت للتوافق عليها، بقدر ما تُطرَح لتضييع الوقت بانتظار "اللحظة المصيرية"، خصوصًا إذا كانت على طريقة "من كلّ وادٍ عصا".

هكذا، بين "المختلط" الذي يروّج له جنبلاط، و"النسبيّ" الذي يحضّر له بري، و"التأهيلي" الذي يصرّ عليه "التيار"، و"الأكثري" الذي لا يزال المفضّل عند كثيرين، لا يبدو أنّ "الطاسة ضائعة"، كما يحلو للبعض توصيف الواقع، بقدر ما يبدو أنّ كلّ الطرق، من دون استثناء، لن تقود إلا إلى الستين... وإلا فالتمديد!