في كل مرة تتواصل الولايات المتحدة الأميركية مع ​روسيا​ للبحث في الأزمة السورية، فإنها في أغلب الأحيان «تقصد» إرسال رسالة إلى سورية بطريقة غير مباشرة، فهي تعرف جيداً أن التنسيق العالي المستوى بين القيادتين الروسية والسورية يعني أن تصبح محاضر الجلسات الأميركية – الروسية وفحوى الاتصالات بين الديبلوماسيين والوفود المتعاقبة التي كانت تعقد لقاءات ثنائية مكثفة بين ممثلي البلدين أسست لها ثنائية جون كيري وسيرغي لافروف بين يدي المسؤولين السوريين. وهي كانت أثبتت ذلك في العملية العسكرية المفاجئة كتطور على الأرض السورية بقصف أميركي لمطار «الشعيرات»، لكنها عملياً بقيت تحت «السيطرة» بالنسبة لسورية، لأن الولايات المتحدة كانت قد أبلغت روسيا بنيتها القيام بقصف المطار تماماً، كما أبلغت واشنطن اليوم روسيا «لتخبر» بدورها و«بديهياً» سورية أنه «لن يكون هناك أي ضربة جوية على سورية من قبل واشنطن وهذا ما صرّح به نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد.

الحذر الأميركي واضح كذلك الهوامش والرسائل. وهناك أمران يحولان دون اعتبار الأميركيين الساحة السورية ساحة مستباحة وواحدهما يشكل أبرز الدوافع لإثبات الوجود أميركياً، وهو «الوجود» الروسي العسكري ما يمنع الأميركيين من التمادي أو التعدي على المصالح الحيوية الروسية والتشويش على نشاطها المعروف الأسباب والأهداف وهو تعدٍّ أيضاً على «الهالة» والمهابة الروسية التي سعت واشنطن من خلال الضربة النيل منها. أما الأمر الثاني فهو السعي للحفاظ على خط أو «شعرة» رفيعة من مستوى توقع ردود فعل القيادة السورية القادرة على أن تلعب فيها روسيا دور الوسيط الذي يُبقي الأميركيين بـ«أجواء» التحرك والقرارات وهو ما يحمي أرضية إنشاء بوابة مفاوضات سياسية سليمة مع الأميركيين ولهذا السبب بات الأميركي «مكبّلاً» أكثر في الملف السوري، أكان عسكرياً أو سياسياً وهو مرتهن إلى موسكو بشكل كبير لا تخفف مفاعيله ضربة بحجم مطار الشعيرات التي كشفت عن ركاكة القرار الأميركي ما خلا في النجاح باعتبارها ضربة شكلية «موفقة» لإدارة ترامب التي تحتاج إلى مشهد اشتباك وتحدٍّ مع الادارة الروسية لإبعاد الشبهات عن أي تعاون سابق رافق حملته الانتخابية.

تقصف الولايات المتحدة في سورية، لكنها تحافظ على «هامش» خط العودة، ولا تأخذ الأمور نحو تدهور كامل، فلا حرب مباشرة على الرئيس السوري بشار الأسد ولا استباحة لمنطقة العمليات الروسية. فالخياران دخلا منطق المستحيل لكنّها تمرّر رسائلها في سورية في أكثر من اتجاه وروسيا المستهدَف الأول من الغارات في سورية مطلوب منها الخضوع بمكان «ما» في هذا العالم.

ليست المسألة سورية فقط، على أهمية الصراع فيها، فالمسألة «التفوق» الأميركي كبديهية لم تعد «مسلَمة». وعلى هذا الأساس بدا استهداف خان شيخون بالكيميائي كخيار محضر «سلفاً» محطة أساسية للنيل من روسيا أميركياً بمساعدة أممية، حيث تجاوبت الأمم المتحدة مع الدعوات الغربية في الإدانة ومشاريع القرارت لكسر صورة رسمتها روسيا في أذهان العالم بأنها دولة تكافح الإرهاب لتصبح الدولة التي تبحث عن تبريرات لدعمها الرئيس السوري بشار الأسد الذي يستخدم الكيميائي ضد شعبه بنظرهم.

التصعيد بوجه الروس مستمرّ غربياً في الساحات كلها تقريباً باتهامات أميركية متتالية وآخرها التالي:

مزاعم حول توريد روسيا أسلحة لحركة طالبان في أفغانستان التي وصفها وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف بأنها عديمة الأساس وكاذبة تماماً.

وصول مقاتلتين أميركيتين من ذوات القدرات العالية على التخفّي من طراز F-35 Lightning II، إلى قاعدة «إيماري» الواقعة قرب العاصمة الإستونية تالين، حسبما أفادت هيئة أركان الجيش الإستوني ويجري نقل المقاتلات الأميركية إلى أوروبا للمشاركة في طلعات تدريبية مشتركة مع غيرها من الطائرات الحربية الأميركية والتابعة للناتو. بعد أن كانت القوات الجوية الأميركية أعلنت سابقاً خططها لنشر هذه المقاتلات المطوّرة في الدول الأوروبية بصورة دائمة مطلع العام 2020.

أزمة جزيرة القرم التي تبدو بيت القصيد في الصراع الروسي – الغربي الأوروبي الكبير. وهي الأزمة التي باتت تفرز شحنات سلبية جداً ويُحكى عن استفزاز كلامي من قبل وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون الذي لوّح باستخدام القوة النووية فهمها مسؤولون روس بأنها موجّهة ضد روسيا، حيث قال «إن بريطانيا تحتفظ بحقها في القيام بالسبق في استخدام صواريخ «ترايدنت» النووية عند الضرورة القصوى»، ما حدا بالمسؤول الروسي فرانتس كلينتسيفيتش وهو مسؤول بلجنة الأمن والدفاع البرلمانية بالردّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي «إن ثمة احتمالين للجوء بريطانيا إلى استعمال السلاح النووي: توجيه الضربة النووية لدولة تملك السلاح النووي أو دولة لا تملكه»، مشيراً إلى أنه في رد فعل على الضربة النووية على دولة نووية «ستمسح بريطانيا عن وجه الأرض».

يمازح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس، زواره أمناء الجمعية الجغرافية قائلاً إنه «منشغل بالنظر في كل الاتجاهات والجهات كي لا يأكل أحد روسيا على حين غفلة»، في إشارة ضمنية لتعقيدات الوضع الدولي، حسب التعليقات الصحافية الروسية وقراءتها كلام بوتين.

تدرك روسيا حجم الضغوط وتتأكد من تنامي حجم استهدافها في سورية والعالم، لكنها على ما يبدو تتجه في أغلب الملفات نحو ثبات غير مسبوق في الموقف وهو ينمّ عن قرار روسي كبير بعدم المساومة والإعلان عن استعداد لكباش «طويل الامد»، إذا أرادت الدول الغربية الابتعاد عن الخيار السياسي، خصوصاً في سورية.