افتتحنا الموسم "المُقدّس" والحمد للعليّ! فبمناسبة بدء ​الشهر المريمي​، تشرَّفَ المطعم الفلاني بتقديم المطرب المَغمُور، صاحب الصوت الجَهور، تُرافقه الراقصة السَّفور، التي تتمايَلُ على إيقاع الدربوكة باحتراف وإثارة. ولِما لا! فالمؤمنون في هذا الشهر الوقور بحاجةٍ إلى جُرعَة إيمانيّة من الطراز المُثير، كما هو رائج، لشقِّ طريقهم إلى السماء، والمطعَمُ مَطعَمٌ غَيور ساهرٌ على حاجات "المؤمنين" الساهرين. ولقد كِدتُ أنسى ذِكر المشروب، فالمشروب روحيّ، مفتوحٌ لِمَن أراد، وقادِرٌ على إضفاء البهجة الزائدة حتّى، عن حدّها، والإرتقاء بالمُحتسي إلى الأثير، فيطير ويَطير ويَطير. وسيشهد الموسِم "المُقدّس" الكثير الكثير من صيحات الدعوات هذه، لدرجة أنّ الرعايا ستحذو حذوَ المطاعِم وتَركَبُ رَكبَها في سعيها إلى الترفيه عن المؤمنين المُتعَبين من شرِّ هذا العالَم ومن مَشقّات هذه الدنيا، والراغبين في أجواء هدوءٍ وسلام، فتُقدِّم، ودائماً برعايَة أصحاب السيادة وبمناسبة شُفعاء رعاياها، كَمّاً من مهرجانات الغِناء والرقص والفقش والترفيه في ساحات الكنائس ودور العبادةوأمام أعيُن شهود الإيمان، شفعاء وشفيعات الرعايا الخاضعين طوعاً لإرادة "المؤمنين"، أوليسَ "لله رِجالاً إن هُم أرادوا أرادَ"؟!وهؤلاء الرجال يُريدون لنا أن نُغنّي ونرقص ونأكلَ ونتفنّنُ في الجنون، ولكنهم، والحقُّ يُقال، ضنينون على أمور الرّوح؛ فالمساحة الواسعة الشاسعة "للفنّ" والتفنُّن، تحتمِلُ قُدّاساً تخدمه الجوقة المشهورة بقيادة المايسترو المرموق والمُغنّيةالواعِدة، وبحضور بعض المُشاهدين الذين يسترقون النظر إلى ساعاتهم بين الفَينةِ والفَينَة، مُترقّبين بفارغ الصبر انتهاء المَشهديّة، والمُمثّلين الذين يحتلّون صدور المجالس، لا إيماناً وتقوىً ورغبَةً في مَكسبٍ روحيّ والعياذ بالله، بل لغايَةٍ في نفوذٍ بَابُه ادّعاء التقوى والفضيلة، وما بأيدي المؤمنين الحقيقيّين حِيلة. طبعاً، ليست المُشكلة في الغناء والرقص، ولا في الإحتفالات التي تجمع الناس مع بعضها البعض في أجواءٍ من الفرح والمودّة وتُقدّمُ ما يكسر الروتين اليوميّ، ولكن المُشكلة هي في مُصادرة المساحة الروحيّة والسطو على المقدّس واستبداله بالدنيوي واختصاره في بعضٍ من الإحتفالات الإجتماعية ليس إلا، والتعامُل معه على هذا الأساس، وإيهام المؤمنين بأنّه والدنيوي سيّان، وأنه لا ضرر في استبدال هذا بذاك أو في المزج بين الإثنين، ما جَعل دور عباداتنا وكنائسنا مسارح ومنابر خطابيّة وأماكن للثرثرة، في ظِلّ غيبوبة رعوية فاضحة، وافتقارٍ إلى قرارٍ كنسيّ حازم يُعيد السياسات الرعوية الشاردة والمتساهلة إلى رُشدها، ويقف بالمرصاد أمام محاولات التسلّل للنَيلِ من هيبة ووقار المُقَدَّسات والأماكن المقدّسة وتشويه الإيمان وقلب معايير التدَيُّن واحتلال المقدّس، بحجّة العصرنة والحاجات الماديّة الضّاغطة، التي لا سبيل لمُعالجتها إلاّ باستقدام الذئاب إلى الحظيرة. كيف تجرأنا وسمحنا للذئاب بالتسلّل إلى الحظيرة، وعلى عاتق مَن تقع المسؤولية؟! أعتقد بأننا كلّنا مسؤولون عن هذا السقوط، ولكن بإمكاننا انتشال أنفُسنا من هذه الهُوّة المُهلِكة، والإرتقاء بها مجدّداً، وبروحانيتنا وبكنيستنا إلى فوق، إن نحنُ أحسنّا الصّنيع وأبحرنا إلى العُمق، وإلاّ "رح منقضّيها رقص"، وسيأتي من بعدنا مَن يُرَقِّصُ نعوشَنا ومن ثُمَّ مَن يَرقُص على قُبورنا.