يذكر اللبنانيّون جيّداً كيف أنّ رئيس المجلس النيابيّ نبيه بري بقي حتّى اللحظةِ الأخيرةِ معارضًا للاتّفاق على انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهوريّة، وداعيًا للتفاوض على ما أسماها بـ"السلة المتكاملة للحلّ"، إلا أنّه لم يحُل دون انتخابِهِ عندما دقّت "ساعة الجدّ"، مكتفيًا بممارسة حقّه الديمقراطيّ بعدم التصويت لصالحه.

خلال الساعات الماضية، بدأ البعض يشيع أجواء توحي أنّ "السيناريو" سيعيد نفسه، هذه المرّة في موضوع ​قانون الانتخاب​، بمعنى أنّ القانون "التأهيلي" المطروح على الطاولة يمكن أن يمرّ بشكلٍ ديمقراطيٍ سلسٍ، رغم معارضة برّي، الذي سيحترم إرادة الأغلبيّة النيابيّة، تمامًا كما فعل عندما "بارك" انتخاب عون، وإن لم يكن موافقاً عليه.

ولكن، إلى أيّ مدى تحتمل هذه المقاربة الصواب؟ وهل بات بري فعلاً الوحيد الرافض للقانون "التأهيلي"، مدعومًا إلى حدٍ ما فقط من رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​؟.

بري ليس وحيداً...

لا شكّ أنّ من يراقب التصريحاتِ الصادرةَ عن مختلف القوى السياسيّة، فضلاً عن التسريبات الصحافية المتنقّلة، يشعر أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري بات يشكّل، وحده، "جبهة المعارضة" ضدّ القانون "التأهيليّ"، الذي يقول "التيار الوطني الحر" أنّه استوحاه أصلاً من بري نفسه، وإن أخضعه لبعض التعديلات "الطفيفة".

إلا أنّ هذا الانطباع قد يبدو، بالمفهوم اللبناني السائد، "بريئاً أكثر من اللزوم"، خصوصًا في ضوء "اللغتين" اللتين ألمح إلى وجودهما رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية ​جبران باسيل​، عندما قال أنّه يصطدم بلغتين مختلفتين كلما طرح قانون انتخابات، واحدة في غرفة المفاوضات والأخرى في الإعلام.

وفي هذا السياق، يبدو واضحًا أنّ الكثير من الأفرقاء باتوا يعتمدون استراتيجيّة عدم التصدّي لأيّ قانون انتخاب، طالما أنّ هناك من يتصدّى له ويرفضه بالضربة القاضية، ما يعني أنّ بري عمليًا ليس المعارض الوحيد للقانون التأهيلي، بل على العكس من ذلك، قد يكون "التيار" هو المؤيد الجدّي الوحيد عليه.

وانطلاقاً من ذلك، قد يكون "الحزب التقدمي الاشتراكي" بقيادة النائب وليد جنبلاط أكثر المعارضين للقانون صراحةً، وإن كان يفضّل البقاء "على الهامش"، في استراتيجيةٍ يعتمدها منذ أن أشبِع اتهاماتٍ بإسقاط كلّ المشاريع الانتخابيّة لصالح الإبقاء على ​قانون الستين​. ولعلّ طرحه لصيغةٍ انتخابية في عزّ النقاش حول "التأهيلي" كافٍ للدلالة على رفضه لهذا القانون، تمامًا كما تعبيره الواضح عن استيائه من "الحلفاء" الذين لطالما تعهّدوا بعدم الموافقة على قانونٍ لا يرضى عليه، قاصدًا بذلك "تيار المستقبل" بالدرجة الأولى.

وعلى الرغم من التفاهم الذي يجمعها مع "التيار الوطني الحر"، فإنّه ليس خافيًا على أحد بأنّ "​القوات اللبنانية​" غير متحمّسة للقانون "التأهيلي" من قريبٍ أو من بعيدٍ، وأنّ التعديلات التي تطالب بها كفيلة بنسفه شكلاً ومضمونًا، وإن أصرّت على المجاهرة بالعكس، وذلك انطلاقاً من مبدأ الاتّكال على الغير، طالما أنّ هذا الغير قادرٌ على إسقاط القانون من تلقاء ذاته، من دون الحاجة إلى "تعكير" علاقتها بحليفها الجديد.

ماذا عن "حزب الله" و"المستقبل"؟

وعلى الرغم من أنّ "حزب الله" و"تيار المستقبل" يروّجان في الليل والنهار لموافقتهما "المبدئية" على مشروع القانون "التأهيلي"، فإنّ كلّ الوقائع والمعطيات تؤكد أنّ لهما حساباتهما واعتباراتهما في ذلك، التي تنتفي متى "دقّت ساعة الجدّ"، وإن حُشِرا في الزاوية، خصوصًا أنّ أيّ تصريحٍ واضحٍ ومُعلَنٍ بهذا الصدد لم يُرصَد لأيٍّ من القياديّين فيهما.

وفي هذا السياق، يمكن القول أنّ موقف "المستقبل" منبثقٌ من السياسة التي يعتمدها منذ البدء بالبحث في ملف قانون الانتخاب، بل منذ ما قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا، وتحديدًا منذ تبنّيه ترشيح رئيس "تيار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​ لرئاسة الجمهورية. فإذا كان الحريري نجح يومها في زرع شرخٍ بين العماد عون والنائب فرنجية، إلا أنّ هدفه الرئيسي كان يقضي بزرع شرخٍ مشابهٍ بين عون و"حزب الله"، وهو الأمر الذي ما يزال يراهن عليه حتى اليوم. ولا يمكن إدراج انفتاحه المستغرَب على كلّ القوانين الانتخابية، حتى تلك التي تعارض عقيدته وثوابته، إلا في خانة الإيقاع بين الجانبين، عبر الإيحاء بأنّ "حزب الله" هو الذي يعرقل التوصّل لقانون الانتخاب الذي يطمح إليه عون. ولعلّ التصريحات المنسوبة للنائب عمار حوري قبل يومين والرافضة للقانون "التأهيلي"، كما الغضب "الجنبلاطي" من تيار "مستقبل قد يصبح ماضياً"، تكفي للدلالة على أنّ "المستقبل" ينقلب على قناعاته، ربما تطبيقاً لمقولة "الغاية تبرّر الوسيلة".

وليس بعيدًا عن ذلك، تبدو موافقة "حزب الله" على "التأهيلي"، في جزءٍ أساسيٍ منها، رفضاً للوقوع في "الفخّ"، خصوصًا أنّ هذا القانون لا يلبّي الشروط التي وضعها الحزب منذ فترةٍ غير قصيرة واشترط قبولها للموافقة على أيّ قانون انتخاب، وجوهرها النسبيّة الكاملة فقط لا غير. ولعلّ الرفض الذي أظهرته قاعدة "حزب الله" للتأهيليّ بالمُطلَق، بمُعزَلٍ عن موقف القيادة، غير المُعلَن بوضوح حتى الساعة، كافٍ للدلالة على ذلك، علمًا أنّ "المَخرَج" الذي سيلجأ إليه الحزب، في حال الضرورة، بات جاهزًا، ويقضي بعدم السماح باستفراد بري من جديد، وبالتالي عدم سيره بأيّ قانونٍ لا يوافق عليه بري وجنبلاط في نهاية المطاف، ما يعني أنّ سيناريو "الرئاسة"، الذي جرى بالتنسيق الكامل مع بري، لن يتكرّر، وهو ما سبق أن أبلغه الحزب للمعنيين في "التيار الوطني الحر" منذ ما قبل بدء النقاش بقوانين الانتخاب.

وقت ضائع...

بخلاف ما يروَّج إذاً، لا تبدو حظوظ القانون "التأهيلي" مرتفعة، طالما أنّ رئيس المجلس النيابي نبيه بري يتصدّى له، ولو بقي وحيدًا، في الظاهر، في "جبهة المعارضة" له.

وبعيدًا عن محاولات "الإقناع" التي يبذلها البعض إزاء رئيس المجلس، فإنّ كلّ ما يحصل لا يصبّ سوى في خانة القناعة القديمة الجديدة بأنّ كلّ ما يحصل مجرّد "وقت ضائع"، تمهيدًا للوصول إلى المعادلة المعروفة، والتي بدأ التمهيد لها يتّسع: "إما التمديد... وإلا فالستين"!