أن يقول رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ أنّ لا حلفاء لديه سوى رئيس المجلس النيابي نبيه بري، فهو لا شكّ يوجّه رسالة بالغة الدلالة إلى رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ على وجه التحديد، الذي بقي يصنّفه في خانة "الحلفاء"، حتى بعد خروجه من "14 آذار" في أيام "عزّها".

وأن يعطف جنبلاط هذا الكلام على انتقاداتٍ قاسية شبه يوميّة للرجل الأقرب إلى الحريري، وزير الداخليّة والبلديّات نهاد المشنوق، فهذا يعني أنّ الرسالة التي يريد إيصالها لم تعد "مشفّرة" من قريبٍ أو من بعيد، بل على العكس من ذلك، أصبحت أكثر من واضحة ومكشوفة. فما الذي يحصل بين الرجلين؟ وهل يمكن الحديث عن انتهاء "الحلف التاريخي" بينهما؟

استياءٌ عام...

منذ ما بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري واستلام نجله سعد الحريري "المشعل" خلفاً له، لم تشهد العلاقة بين الأخير وبين رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط مداً وجزراً كالذي يحصل اليوم. وحتى حين خرج جنبلاط من قوى "14 آذار"، معلنًا بذلك "بداية النهاية" للتحالف السياسيّ العريض الذي كان الحريري يقوده، لم تتأثّر العلاقة بينهما سلبًا، وبقي "الشيخ" يقف على خاطر "البيك"، ويشاوره في الشاردة والواردة.

ولكن، ومنذ عودة الحريري إلى البلاد قبيل انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية، بدأت بوادر "خللٍ ما" تظهر على خط العلاقة الثنائية بين الرجلين، يبدو أنّه وصل إلى أوجه في الأسابيع القليلة الماضية، في خضمّ النقاش حول ​قانون الانتخاب​ ومجلس الشيوخ وما إلى ذلك. وقد يكون الحديث في هذا السياق عن "استياء جنبلاطيّ" من "السياسة الحريريّة" من البديهيّات، خصوصًا أنّ جنبلاط أصبح يشعر كما غيره أنّ أولويّة الحريري باتت تتركّز على إرضاء الثنائي المسيحي المتمثل في "التيّار الوطنيّ الحرّ" و"القوّات اللبنانية"، ولو كان ذلك على حساب غيرهما.

وإذا كان جنبلاط استبشر خيرًا بكلام الحريري في مستهلّ المعارك حول قانون الانتخاب عن أنّه لا يمكن أن يوافق على قانون انتخاب لا يرضى جنبلاط عنه، فإنّ الوقائع العمليّة على الأرض لم تأتِ مطابقةً لهذا الكلام، لا في الشكل ولا في المضمون، بدليل أنّ الحريري بات يوزّع "الموافقات" على كلّ ما تيسّر من صيغ وقوانين انتخابيّة، بما فيها تلك التي لا تتعارض مع قناعات جنبلاط فحسب، بل مع عقيدته الشخصيّة. ويمكن القول في هذا السياق أنّ موافقة الحريري على القانون "التأهيليّ"، رغم الصبغة "الطائفية" التي يتّسم بها، والتي لطالما نبذها الحريري نفسه، للمفارقة، أتت لتزيد الطين بلّة، خصوصًا أنّ جنبلاط كان قد عبّر عن معارضته الشديدة لهذا القانون، والذي رأى فيه إلغاء للشراكة الإسلامية المسيحية وضرباً للوحدة الوطنية.

وإذا كان موقف الحريري المنفتح على "التأهيلي" أخرج جنبلاط عن طوره، ودفعه لانتقاد "تيار يسمّى مستقبل لكن قد يصبح ماضيًا"، على حدّ تعبيره، فإنّ ما ضاعف من حجم استيائه لم يكن تجاهل الحريري التام لمشروع القانون الذي طرحه "الاشتراكي" بالمُطلق فحسب، بل "انفتاحه" على منطق الثنائي المسيحي الداعي لرئاسة مسيحيّ لا درزيّ لمجلس الشيوخ، بذريعة أنّه لا يريد "إغضاب" المسيحيّين، كما نُقِل عنه خلال اجتماعه بوفد "الاشتراكي"، وهذا الأمر أثبت لجنبلاط أن الحريري ما عاد مكترثاً به وبهواجسه، بخلاف ما يقوله.

كلمة السرّ

​​​​​​​وأبعد من كلّ هذه التفاصيل التقنيّة والقانونيّة، يمكن القول أنّ كلمة السرّ في "الاستياء الجنبلاطيّ" من الحريري تكمن في أنّ "الاشتراكيّين" بدأوا يشعرون أنّ الحريري، في سياسته الجديدة، وغير البريئة بطبيعة الحال، يضع نصب عينيه الاستيلاء على الموقع الذي استحوذ عليه جنبلاط لعقود، الأمر الذي استحقّ بسببه، وعن جدارة، لقب "بيضة القبان" في السياسة اللبنانية. وإذا كان جنبلاط أدرك أنّه افتقد هذا الموقع، بعد انتهاء الانقسام العمودي بين "8 و14 آذار" وانقلاب خريطة التحالفات السياسية على نفسها، فإنّ ما فاجأه أن يرثه الحريري وهو حيّ، فيتموضع في "الوسط"، ويحوّل نفسه إلى "شيخ الصلح".

وعلى الرغم من أنّ الاستراتيجيّة التي اعتمدها الحريري في الآونة الأخيرة بدت ذكيّة لدرجةٍ كبيرة، وظهر الرجل من خلالها متقدّمًا على نفسه، في قفزةٍ وُصِفت بالنوعيّة، فإنّ جنبلاط لا يستسيغها، وهو يعتبر أنّ الحريري يبالغ في انفتاحه على "الوطني الحر" و"القوات" ظناً منه أنّهما سينقذانه من أزماته المتشعّبة، من دون أن يدرك أنّه يعرّض بذلك تحالفاته القديمة للاهتزاز، وهو ما ليس في مصلحته، كما أنه يضرب بذلك "المبدئية السياسية" عرض الحائط، الأمر الذي لن يساعده في الحفاظ على القاعدة الشعبيّة العريضة التي يمتلكها.

ولعلّ المفارقة المثيرة للانتباه في كلّ ما تقدّم أنّ جنبلاط، الذي لطالما اتُهِم في السياسة بكثرة تقلّباته وانعطافاته، بات يشكو من "استدارات" الحريري المتكرّرة، ويعاني من عدم القدرة على استيعابها، خصوصًا بعدما كسر الحريري كلّ "الخطوط الحمراء" التي كان قد وضعها بنفسه، سواء في السابق، في إشارة إلى رفض الجلوس مع "حزب الله" على طاولةٍ واحدةٍ، واستحالة إيصال العماد عون إلى قصر بعبدا، أو في النقاشات الحاليّة، على صعيد "الفيتو المطلق" الذي كان يضعه على النسبيّة مثلاً، أو "انقلابه" على نفسه في موضوع التمديد والفراغ مثلاً.

وخير دليلٍ على ذلك أنّ نواب "المستقبل" أنفسهم وجدوا أنفسهم في مأزق، ففي حين خرج بعضهم، عفويًا ربما، لإدانة القانون "التأهيليّ"، انسجاماً مع رفضهم الصبغة "الطائفية" التي اعتادوا على انتقادها في أيّ قانون، ولا سيما "الأرثوذكسي"، كان الحريري يبدي انفتاحًا على القانون، ما دفع البعض إلى الاعتقاد أنّ الحريري قد يوافق على "الأرثوذكسي" إذا ما أعيد طرحه اليوم من قبل الثنائي المسيحيّ، ويسحب بالتالي كلّ انتقاداته وتحفّظاته السابقة عليه.

الحقّ حقّ!

من حقّ جنبلاط أن يستاء من الحريري، خصوصًا إذا ما اشتمّ رائحة "انقلابٍ" عليه في مكانٍ ما، وإذا ما شعر أنّ حليفه القديم لم يعد يكترث له ولهواجسه، سواء لإرضاء "العهد" ومن يمثّل، أو لضمان البقاء في موقعه لا أكثر ولا أقلّ. وفي المقابل، من حقّ الحريري أن ينتهج السياسة التي يعتقد أنّها تصبّ في صالحه وتُخرِجه من الأزمات الكثيرة التي وقع فيها في الآونة الأخيرة، خصوصًا إذا ما ظنّ أنّ من شأنها على المدى الطويل إعادة الاعتبار لـ"زعامته"، بعيدًا عن "الحريرية السياسية" التي تحوّلت في مكانٍ ما لتهمة.

ولكن، ليس من حقّ جنبلاط والحريري وسائر شركائهما في الطبقة السياسية أن يتواطأوا على الشعب، الذي لم يحصل حتى الآن على الحدّ الأدنى الذي يطلبه، وهو قانون انتخاب عصريٍ وعادلٍ يعطيه الفرصة الحقيقية والمتساوية ليدلي بدلوه، لا ليصدّق على ما يرسمه السياسيون ويخطّطونه له، ولو بالاعتماد على طائفيةٍ مقيتةٍ ومنبوذة!