منذ بدء أزمة ​قانون الانتخاب​، كُتِب الكثير عن الطبقة السياسيّة، وتماديها في استباحة الدستور والقانون، وعن عجزها عن التوافق على ما هو في صالح البلاد والعباد، طالما أنّ أولوية أولويّاتها لا تزال ضمان بقائها في السلطة كيفما كان، بحجمها "المضخّم"، ومنع كسر "احتكارها" من قبل أيّ كان.

وفي السياق، ثبت الكثير ممّا كُتِب عن "سيناريو" ينفّذه السياسيون بحذافيره للوصول إلى ربع الساعة الأخيرة، الذي سيخيّرون فيه اللبنانيين بين خياراتٍ أحلاها مُرّ، من الفراغ إلى ​التمديد​ إلى إجراء الانتخابات وفق قانون الستّين، وفق مخطّطٍ ممنهجٍ يقوم ظاهريًا على قاعدة "مُكرَهٌ أخاك لا بطل".

ولكن، أين ​المجتمع المدني​ من كلّ ذلك؟ لماذا لا تزال تحرّكاته خجولة ومتواضعة؟ هل ينتظر هو الآخر ربع الساعة الأخيرة لينتفض على سلطةٍ يفترض أنّها استنفدت كلّ الفرص وأكثر؟

مرّ 15 أيار...

مرور الكرام، مرّ تاريخ الخامس عشر من أيار، الذي وُصِف قبل شهرٍ بالمفصليّ والاستثنائيّ والتاريخيّ. لم تُعقَد ما اصطلح على تسميتها بـ"جلسة التمديد"، بعدما ارتأى رئيس المجلس النيابي نبيه بري إرجاءها حتى نهاية الشهر، هو الذي كان مصرًّا قبل شهر على عقدها بالسرعة القصوى، قبل أن يتدخّل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لتأجيلها، مستخدماً صلاحياته الدستورية التي تخوّله تعطيل البرلمان لشهرٍ كاملٍ في العقد الواحد.

لم يعد سراً أنّ خطوة عون أتت بالتنسيق مع بري وسائر الأفرقاء، وكذلك أتت خطوة بري بتأجيل الجلسة مجدّدًا بالتنسيق مع الآخرين، ولن يكون غريبًا كذلك أن لا يكون الموعد الجديد الذي حدّده بري للجلسة نهائيًا، إذا لم يتمّ التوافق على قانون الانتخاب قبله، وهو المرجّح، ليتمّ فتح دورة استثنائية للمجلس تستمرّ حتى نهاية ولايته الممدّدة قسراً.

ظاهريًا، توحي هذه "التأجيلات" المتكرّرة للجلسة بأنّ الأمور "مضبوطة"، وبأنّ السياسيّين يريدون فعلاً إفساح المجال للمزيد من المفاوضات والنقاشات التي يمكن أن تفضي لصيغة توافقية لقانون الانتخاب. إلا أنّ أمرًا كهذا يحتاج إلى سلسلة مقوّمات، على رأسها الإرادة الحقيقية والصادقة، وهو ما لا يبدو متوافرًا لغاية تاريخه لدى معظم مكوّنات الطبقة السياسيّة، وخير دليلٍ على ذلك الأداء غير السوي الذي تتمّ من خلاله مقاربة ملف بهذه الحساسية والخطورة.

ولعلّ الاجتماعات الافتراضية "الماراتونية" التي سبقت جلسة الخامس عشر من أيار المفترضة تختصر هذا الأداء، خصوصًا أنّ الاجتماعات عقدت "بالمفرّق"، وأطاح استبعاد شخصياتٍ أساسيّة ووازنةٍ عن اجتماعاتٍ اعتُبِرت "مصيريّة" بكلّ مضمونها، مع عودة خطاب "ما قبل وما بعد"، وكأنّ المهل لا تزال مفتوحة لسحب الاقتراحات القديمة من التداول، وفتح النقاش باقتراحاتٍ وصيغٍ جديدةٍ.

أين المجتمع المدني؟

من الواضح إذاً، وبعيدًا عن "الحكم على النوايا"، أنّ الطبقة السياسية ماضيةٌ في تنفيذ مخططها "عالمكشوف". وعلى الرغم من أنّ "نظرية المؤامرة" لم تعد واقعيّة ولا منطقيّة، إلا أنّها ليست صدفةً أن تصطدم كلّ اقتراحات القوانين التي طُرحت في الآونة الأخيرة، الصالح منها والطالح، بـ"الفيتو" من هذا الفريق أو ذاك، وليست صدفةً أن تقترب المهل الدستورية والقانونية من النفاد من دون أن تُظهِر الطبقة السياسية اكتراثاً حقيقيًا سوى بالكلام، الذي لا يغني ولا يسمن من جوع.

ولكن، إذا كانت هذه حال السلطة، فأين المجتمع المدني وسط كلّ ذلك؟ ألم يحن وقت النزول إلى الشارع، لتفادي ما هو مرسومٌ ومخطَّطٌ، أو على الأقلّ، للضغط على السلطة بشكلٍ أو بآخر؟ ألم تقل جماعات المجتمع المدني قبل شهرٍ أنّ خطوة رئيس الجمهورية كانت مجرّد "تأجيل للمشكل"، وبالتالي فهي ليست الحلّ؟ هل تنتظر، هي أيضًا، "المشكل" حتى تتحرّك؟

صحيحٌ أنّ بعض هيئات المجتمع المدني نزلت يوم الأحد إلى الشارع تحت عنوان "لا للتمديد"، بل حدّدت موعدًا أسبوعيًا للنزول، كلّ يوم أحد، خلال المرحلة المقبلة، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ هذا التحرّك "الخجول" لم يشمل سوى عيّنة من هذا المجتمع المدني، يفترض أن يلتحق بها الآخرون سريعًا، وإلا فإنّ التحرك هذا لن يبدو أكثر من "رفع عتب"، ولو قال القيّمون عليه أنّه سيكون بمثابة "كرة ثلج" ستتصاعد رويدًا رويدًا.

قد لا يكون بمقدور المجتمع المدني، في ظلّ التركيبة اللبنانية المعقّدة، أن يفعل الكثير، وهو ما أثبتته التجارب اللبنانيّة القديمة والحديثة، خصوصًا أنّها تغرّد وحيدةً خارج السرب السياسيّ، من دون التجاوب الكبير والحقيقي من الشعب الذي لا يزال في جزءٍ غير يسيرٍ منه راضخًا للسياسيين والأحزاب، ولكن "الاستسلام" لا يمكن أن يكون هو الحلّ. ولذلك، فإنّ المطلوب من المجتمع المدنيّ في هذه المرحلة بالتحديد أن يضطلع بمسؤولياته، ولو تطلب الأمر إعلان حالة الاستنفار القصوى، أو ما يمكن تسميته بـ"حالة الطوارئ المدنية"، وربما البقاء في الساحات والشوارع، لأنّ لا مسؤوليات تضاهي المسؤوليات الملقاة على عاتق المجتمع المدني اليوم، خصوصًا باعتبار أنّ قانون الانتخاب الذي تماطل السلطة بمقاربته هو حجر الأساس لبناء الكيان اللبنانيّ.

المبادرة مطلوبة!

لم يعرف التاريخ اللبناني الحديث حضورًا قويًا ومؤثرًا للمجتمع المدني سوى ربما بعيد أزمة ​النفايات​ التي ضربت لبنان، فكانت "انتفاضة" حقيقية عجزت السلطة عن مواجهتها، قبل أن يخمدها منظّموها أنفسهم، بسبب "المنافسة" التي خلقوها فيما بينهم، والتي حيّدت البوصلة عن اتجاهها الحقيقي.

وبعيدًا عن الأسباب التي جعلت هذه الانتفاضة "قاصرة"، والتي لم ينتهِ النقاش فيها بعد، فإنّ الأكيد أنّ قد حاك ليأخذ المجتمع المدني زمام المبادرة بدل الاكتفاء بـ"ردّة الفعل"، لأنّ انتظاره تحديد موعد جلسة التمديد مثلاً للتحرّك بموازاتها، لن يكون كافيًا...