يبدي العالم وبخاصة في الغرب اهتماماً ملحوظاً بالانتخابات الرئاسية التي تتحضّر إيران لخوضها، في ظل أزمات وتعقيدات تجتاح المنطقة والعالم بعد 7 سنوات من اندلاع نار الحريق العربي الذي أدى الى انهيارات شتى في طليعتها انهيار المشروع الأميركي لإقامة نظام عالمي أحادي القطبية ليفسح في المجال أمام قيام نظام عالمي جديد قائم على التعددية ويفرض وجود التحالفات والمجموعات الاستراتيجية التي تؤمّن بقوتها الذاتية والتحالفية مواقع ومكاسب في هذا النظام. وبما أن إيران باتت اليوم رقماً رئيسياً في المعادلة الإقليمية ورقماً معتبراً يُحسب له حساب في المعادلة الدولية، فإن الحدث الإيراني هذا الانتخابات ورغم أنه في الأساس شأن داخلي، بات الاهتمام به دولياً أمراً لا مفر منه، نظراً لموقع إيران في الخريطة الاستراتيجية إقليمياً ودولياً. فما الذي يمكن أن تأتي به هذه الانتخابات؟

بداية لا بدّ من الإشارة إلى موقع رئاسة الجمهورية في هيكلية الحكم الإيراني. فرئيس الجمهورية هو رئيس للسلطة التنفيذية بحسب الدستور لا يوجد في إيران رئيس حكومة أو رئيس وزراء والوزراء الذين يشكلون الحكومة الإيرانية يُعيّنهم رئيس الجهورية وينالون ثقة مجلس الشورى أي مجلس النواب بصورة فردية، أي لا يوجد في إيران ما يُعرف بالتضامن الوزاري، والحكم في إيران موزّع بين المؤسسات التي تعمل بمبدأ الضبط والمراقبة المتبادلة، كما أنها ملزمة بقاعدة التنسيق والتعاون. وهنا يقوم الضابط الأول من ضوابط العمل في الحكم الإيراني حيث إن قاعدة «السلطة لا تحدّها الا السلطة» التي أطلقت في الغرب تجد خير تطبيق لها في إيران، حيث لا يوجد فيها سلطات مطلقة لأحد. فكل سلطاتها تعمل في دوائر محددة بحدود الأخرى وتحت إشراف وإرشاد المرشد الأعلى للدولة الولي الفقيه الذي يُعتبر الموجه وضابط الإيقاع في كل الدولة بما يحفظ وجودها وحيويتها والتزامها بمبادئ الثورة الإسلامية.

وعلى هذا الأساس، وبما أن إيران تعمل بقاعدة الديمقراطية الرشيدة، حيث يكون الشعب حراً في الاختيار بين مَن يؤمن منه في ذاته ويؤتمن على الثورة في أدائه وسلوكه، وتكون مؤسسات الدولة المسؤولة عن تشخيص مصلحة النظام والدولة والثورة جاهزة لمنع تسلّق أعداء الثورة او الخطيرين عليها ومنعهم من الوصول الى مواقع السلطة، فإن التنافس يكون حقيقة بين الأشخاص العاملين تحت سقف مبادئ الثورة الإسلامية. وعليه لا يمكن أن نتصور أن تفضي الانتخابات الى وصول انقلابي على الثورة الإسلامية. وهنا يتحقق ضابط آخر من ضوابط العمل في الحكم والسياسة الإيرانية الاسلامية.

اما الضابط الثالث لضمان الثبات على نهج الولي الفقيه المؤسس، فإنه يتمثل بالقوى العسكرية والشعبية المتمثلة بالحرس الثوري والباسيج الحاضرة دائماً للدفاع عن الثورة ليس ضدّ عدوان خارجي، فحسب بل وأيضاً ضد أي سلوك داخلي يُفضي للانقلاب على مبادئ الثورة. ولنا في ما حصل في العام 2009 خير مثال حيث استطاعت تلك القوى والهيئات أن تجهض المحاولات التي حركتها أيد أجنبية لإفساد العملية الانتخابية من اجل الانقضاض على الدولة وثورتها، لكن إيران وعبر أجهزتها المختصة والتي في طليعتها الحرس الثوري استطاعت أن تحتوي «الهجوم السلمي» وتعيد الأمور الى نصابها.

وعليه، فإذا كانت كل هذه الضوابط قائمة، وتقود الى القول بأن الانتخابات لن تأتي بمَن ينقلب على الثورة او يغير النظام، فلماذا الاهتمام الغربي بهذه الانتخابات؟ وما الذي يريده الغرب تحديداً، وكيف سترد إيران على السعي الغربي؟

الإجابة هنا تكون تكمن في أمرين الأول يتمثّل في حجم المشاركة الشعبية المرتقبة في الانتخابات، والثاني يتّصل بهوية المتنافسين السياسية، ففي الأول يكون من الطبيعي والمنطقي أن يشكل حجم المشاركة الشعبية في الانتخابات دلالة هامة على العلاقة بين الشعب والنظام، حيث يدل حجم المشاركة مباشرة على حجم التأييد والتمسك الشعبي بالنظام الإسلامي ذاته. لان عزوف الشعب او عدم اكتراثه بالعملية الانتخابية يعني بشكل أكيد عدم ثقته بالمنظومة السياسة وبالنظام الذي يسيرها. لذلك سيكون أمام الشعب الإيراني تحدٍّ رئيسي هو الذهاب الى صناديق للاقتراع، لأن صوته يحتسب مرتين مرة للنظام، فكل من يدلي بصوت في الصندوق انما يقترع للنظام الإسلامي ويؤكد مرة أخرى على التزامه بالدستور الإسلامي للدولة، ومرة أخرى للمرشح الذي اختاره من بين المتنافسين المقبولين. ففي التصويت او عدمه يؤكد الشعب التزامه وتأييده للنظام او إنكاره.

أما في الثانية أي بالنسبة لهوية المرشح، فإننا في الحقيقة نشهد تنافساً بين تيارين أساسيين، تيار الإصلاحيين الذي يؤمن بسياسة المرونة والانفتاح على الخارج وتجنّب المواجهة ما أمكن مع التركيز على المسائل المعيشية للمواطن، ومع التمسك الثابت والأكيد طبعاً باستراتيجية الثورة في العلاقات الخارجية، وتيار المحافظين المتشدّد في تطبيق مبادئ الثورة الذي لا يرى جدوى من الانفتاح على الخارج الاستعماري لإيمانه بأنه كاذب مراوغ يأخذ ولا يُعطي، وفي الداخل قد لا يكون همّه الرفاه الاجتماعي المادي الواسع بمقدار اهتمامه بالبناء الروحي العقائدي للشخصية المسلمة طبعاً من غير إهمال أبداً للجانب الاجتماعي والإنساني للشعب. وبالتالي فإن الشعب هنا، وفي هذه المسألة بالذات يكون في وضع عليه أن يختار بين نهجين تنفيذيين تحت سقف مبادئ الثورة.

وعلى ها الأساس يتنافس الإصلاحيون بقيادة السيد روحاني رئيس الجمهورية الحالي مع المحافظين بقيادة السيد رئيسي، وكلاهما من رجال الدين المعمّمين العاملين، ويخوض الأول المنافسة متسلحاً بما أنجزه في حكمه خاصة الاتفاق النووي الإيراني، أما الثاني فينطلق من تصوره أن روحاني فشل في تحقيق مصالح الدولة العليا في العلاقات الخارجية أو في التقديمات الاجتماعية ويعد الشعب بالتصحيح والمعالجة.

أما النتيجة المرتقبة، فيبدو أنها حتى الآن ضبابية إلى حد ما رغم الاستطلاعات التي تُعطي الإصلاحيين الأرجحية في الدورة الأولى، لكنهم كما يبدو يصعب عليهم الحصول على الأكثرية المطلقة من أصوات المقترعين 51 ما يلزمهم بالذهاب إلى دورة ثانية لن يكون الفوز لهم مضموناً، حيث إن دعم المرشد الأعلى للثورة للسيد رئيسي سيكون مؤثراً من دون شك.

وفي التقييم النهائي، فإن حصول الانتخابات وبنسب مشاركة عالية يعني انتصاراً تراكمياً للثورة والنظام الإسلامي، اما على صعيد سياسة إيران الخارجية، فلا أعتقد أن أي تغيير سيحصل أياً يكن الفائز، لأن رئيس الجهورية ليس بيده حصراً سلطة القرار، التي تتوزّعها المؤسسات بإشراف الولي الفقيه. فرئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية التي له أن يختار الأسلوب في تنفيذ القرار بين أسلوب مرن ومناورة او أسلوب تشدّد ومواجهة من غير دبلوماسية ومجاملة.