في كل دول العالم المُتحضّر يلعب الإعلام دورًا حاسمًا في كشف العديد من الجرائم، بسبب ما يُعرف بإسم "​الصحافة​ الإستقصائيّة" حيث يتوجّه الصحافيّون والإعلاميّون إلى مكان الحدث، ويُمارسون دورًا إستقصائيًا أقرب إلى دور التحرّي والمُحقّق الخاص منه إلى الصحافي الذي يكتفي بنقل الخبر. أمّا في لبنان، فما أن تبثّ إحدى الإذاعات معلومة مُحدّدة، أو ينشر أحد المواقع الإلكترونية خبرًا معيّناً، حتى تُسارع أغلبيّة وسائل الإعلام إلى تبنّي هذه المعلومة كما هي أو هذا الخبر كما هو، من دون أدنى بحث عن الحقيقة، ومن دون أي جهد شخصي للتقصّي عمّا وراء وخلف ما يجري تناقله، الأمر الذي يُؤدّي في كثير من الأحيان إلى الترويج-وبشكل أعمى، لروايات مُختلقة رماها مُجرمون مُحتملون لتضليل التحقيق، ولرفع الشُبهات عنهم، فيصدّقم بعض الإعلام اللبناني ويُكرّر كلامهم بأسلوب الببغاء، فيفلت من يجب أن يُعاقب من العقاب، ويُخدع الرأي العام اللبناني!

والأمثلة في هذا السياق كثيرة، وفي الأيام والأسابيع القليلة الماضية حصلت أكثر من حادثة مُثيرة للشبهات، وقد إستبق فيها الإعلام مُجريات التحقيق المَيداني، فأصدر أحكامًا مُبرمة بالنسبة إلى الرأي العام، لكنّها بالتأكيد ليست مُبرمة من الناحيتين القانونيّة والقضائيّة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تبنّت وسائل الإعلام بأغلبيّتها في الساعات الماضية، رواية غير مُكتملة بشأن مأساة وفاة أربعة أطفال (هم ياسمين وشهد وبيان ولين) تتراوح أعمارهم بين ثلاث سنوات وأربع سنوات وبضعة أشهر، حيث نقلت من دون تدقيق رواية تقول إنّ الأطفال كان يلعبون لعبة "الغميضة" وإختبأوا في صندوق إحدى السيارات ثم عجزوا عن فتحه، فارتفعت حرارة أجسادهم وتناقص الأوكسجين إلى أن لفظوا أنفساهم. من حيث المبدأ، يُمكن أن يموت الأطفال في حال بقوا لفترة زمنيّة لا تقلّ عن 15 دقيقة داخل سيارة مُحكمة الإقفال تحت حرارة الشمس الحارقة، لكن الأسئلة التي فرضت نفسها في هذه المأساة، هي: من فتح باب السيارة أو باب صندوقها ليتمكّن الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن خمس سنوات من رُكوبها؟ ومن ساعدهم في الصعود إلى متنها حيث أنّ السيارة التي قيل إنّهم وُجدوا فيها هي مُتعدّدة الإستخدامات أي SUV وبالتالي مُرتفعة عن الطريق ومن الصعب على طفل في الثالثة من عمره ركوبها بدون مُساعدة؟ وكيف تكون السيارة مفتوحة ليتمكّن الأطفال من الصعود إلى متنها إذا كانت مزوّدة بنظام إقفال أوتوماتيكي أطبق على الأطفال بعد صُعودهم إلى متن المقصورة كما قيل؟ وكيف لم يسمع أي من المارة أو سُكان الحيّ أي بُكاء أو صراخ، علمًا أنّ السيارة كانت مركونة في مكان قريب من منزل العائلة وضمن منطقة مأهولة وفي الظلّ وليس تحت الشمس؟ وكيف علق الأطفال في الصندوق وسيارة الدفع الرباعي تفتقر إلى صندوق مُستقل كما هي الحال في سيارات Sedan، حيث أنّ صندوقها يُمثّل إمتدادًا للمقصورة ويُتيح التنقل بسهولة بداخلها؟ والأسئلة التي بقيت بدون إجابات شافية لا تنتهي...

ومن بين الأمثلة أيضًا، مقتل الشاب حسن السمرا (28 سنة)، بعد إصابته بطلق ناري قيل إنّه عن طريق الخطأ داخل محلّ للصيرفة في صور، وذلك بينما كان مالك المحلّ يتفقّد سلاحه–كما ذكرت وسائل الإعلام البُبغائي أيضًا، علمًا أنّ في الفيلم المُصوّر الذي صادرته الأجهزة الأمنيّة من داخل المحلّ، يُظهر أنّ الصيرفي الأساسي كان يهمّ بتسليم "الزبون" المُفترض مبلغًا من المال، ثم قام بوضع المبلغ على الطاولة، ودخل في نقاش مع الضحيّة ومع شخص آخر كان داخل المحل أيضًا. وعلى الرغم من غياب الصوت عن الشريط المُصوّر، فإنّ النقاش بدا حاميًا بحسب حركة الأيدي والضرب باليد على المكتب، قبل أن يقوم الصيرفي بتناول مُسدّس وبتلقيمه أسفل الطاولة، ثم بالوقوف وبتوجيه فوّهة المُسدّس نحو صدر الضحيّة، لتنطلق الرصاصة بعد ذلك. وهنا على التحقيق الكشف من خلال إستجواب الشُهود داخل المحل (كان يتواجد رجل إضافة إلى موظّفة مُساعدة للصيرفي الأساسي) لمعرفة طبيعة الحديث الذي كان قائمًا، والتوسّع في التحقيق لمعرفة العلاقة التي تربط الصيرفي بالضحيّة وإذا كانت توجد خلافات سابقة بينهما، ولمعرفة ما إذا كان الصيرفي حاول إخافة أو تهديد "زبونه" المُفترض، فإنطلقت رصاصة عن طريق الخطأ، أو أنّه تعمّد إطلاق النار بهذا الشكل الواضح والمُسجّل من قبل كاميرا المراقبة، إلى ما هناك من أسئلة لم يتم الكشف عنها على الرغم من مرور نحو أسبوعين على هذا الحادث.

الأيّام والأسابيع القليلة الماضية أيضًا، سقطت أكثر من ضحيّة بنيران أسلحة حربيّة "عن طريق الخطأ"، كما سارع المعنيّون بهذه الحوادث إلى إشاعته، وكما سارعت وسائل الإعلام البُبغائي إلى تبنّيه! ونذكر على سبيل المثال مقتل السيدّة الحامل فدى عبدو في بلدة عين الدهب العكاريّة برصاصة من بندقيّة صيد على يد زوجها "عن طريق الخطأ"، ووفاة الشاب حسان ر. في حلبا على يد إبن عمّه" عن "طريق الخطأ" أيضًا–كما قيل، علمًا أنّ البندقية هي من نوع Pump Action.

في الخلاصة، الأخطاء واردة، ومن الظلم توجيه الإتهام لأي شخص أو عائلة تفقد أحد أفرادها أو أقاربها أو معارفها، لكن من الظلم أكثر أن تقع أي جريمة قتل، ويجري طمسها عن طريق تسويق مقولة "عن طريق الخطأ". وبالتالي، المطلوب من الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة الرسميّة أن تُمارس دورها بكل شفافيّة وفعاليّة وإحترافيّة، والمطلوب من وسائل الإعلام ألا تتبنّى أي رواية بشكل بُبغائي، وأن تُبقي مهمّة إطلاق الأحكام مثل "جريمة قتل" أو "قتل عن غير قصد" للقضاء. وإذا كان من الصعب على وسائل الإعلام تقصّي الأخبار بدقّة من مصادرها، بسبب ضعف التمويل ومحدوديّة الكادر البشري وصُعوبات لوجستيّة على الأرض، ليس صعبًا على المُحرّرين تشغيل عقولهم وعدم تصديق مُطلق أي رواية ونشرها كما هي، خاصة وأنّ الكثير من هذه الروايات غير قابل للتصديق، حتى لا توفّر الحماية لمُجرمين مُحتملين وتسمح لهم بأن يفلتوا من العقاب!.