إلى جانب الدور الكبير للعديد من القوى الإقليميّة والتأثير الدَولي المُهمّ أيضًا، فإنّ لبعض القوى اللبنانيّة الأساسيّة، وفي طليعتها "حزب الله" و"التيّار الوطني الحُرّ" هامش حركة واسع قادر على أخذ ملفّ الإنتخابات النيابيّة في إتجاه أو آخر. وبعد أشهر من الأخذ والردّ في هذا الملفّ، وبعد التموضعات التي حصلت والمواقف التي إتخذت، يُمكن القول إنّ "التيّار الوطنيّ" صار حاليًا أمام ثلاثة خيارات... أحلاها مُرّ!.

الخيار الأوّل: المُوافقة على قانون إنتخابات جديد يعتمد مبدأ التصويت النسبي الكامل، ووفق دوائر متوسّطة، أي ليس وفق ست مُحافظات كما طُرح في البداية، وفي الوقت عينه ليس وفق دوائر كثيرة عدديًا وضيّقة جغرافيًا، أي 15 دائرة، كما كان يُطالب "الثنائي المسيحي". وسيكون "التيّار الوطني الحُرّ" مُضطرًا أيضًا إلى التنازل عن مطلبين آخرين لتسهيل التوافق على قانون النسبيّة الكاملة، ويتمثّلان في عدم نقل أي مقاعد نيابية من موقعها الحالي إلى دوائر أخرى، وفي عدم إعتماد صوت تفضيلي وفق القيد الطائفي بل خارجه. وفي حال قدّم "التيّار الوطني" هذه التنازلات، فإنّ الأمور ستسلك طريقها فورًا نحو إجراء ​الإنتخابات النيابية​ في غضون ثلاثة أشهر، لكن وفق قانون لا يُلبّي المطالب التي رفعها "التيّار" لا سيّما لجهة تحرير صوت الناخب المسيحي من الهيمنة العدديّة لأصوات باقي الناخبين. والأخطر من ذلك، أن تبنّي قانون النسبيّة الكاملة من دون ضمانات تحفظ قيمة صوت الناخب المسيحي، يعني حُكمًا أنّ تأثير هذا الصوت على النتائج النهائيّة سيتراجع أكثر فأكثر مع كل دورة إنتخابات نيابيّة، بسبب الفارق الكبير في سرعة نموّ عدد الناخبين المُسلمين في مقابل سرعة نموّ عدد الناخبين المسيحيّين في مختلف الدوائر، وباعتبار أنّ القانون الذي سيتمّ التوصّل إليه حاليًا سيُعتمد كما هو في الدورات الإنتخابيّة المُقبلة.

الخيار الثاني: الإقرار بالفشل في التوصّل إلى قانون جديد، ومُلاقاة القوى التي تدعو إلى إجراء الإنتخابات وفق القانون النافذ حاليًا، أي وفق "قانون الستّين" المُعدّل في "مؤتمر الدوحة"، وهذا الأمر سيُشكّل ضربة معنويّة كبيرة لا تقلّ سوءًا عن المُوافقة على قانون النسبيّة الكاملة بشروط الآخرين وليس وفق مطالب "التيّار"، خاصة وأنّ بوادر تشكيل تحالفات هجينة بوجه "الثنائي المسيحي" باتت أكثر من واضحة في أكثر من دائرة ومنطقة، بالتزامن مع رفض أكثر من حليف سابق لأحد أركان "الثنائي" تجيير أصوات ناخبيه لتحالف "التيّار الوطني الحُر" وحزب "القوّات اللبنانيّة" بسبب عدم التوافق سياسيًا مع إحدى هاتين القُوّتين، بشكل يُنذر بإسقاط طموحات كل من "التيّار" و"القوّات" بإعادة الإعتبار إلى الكتل الحزبيّة المسيحيّة بشكل مُوازٍ لنظيراتها الإسلامية في المجلس النيابي، في مهدها. ولا شكّ أنّ "الثنائي المسيحي" سيجد عندها صُعوبة في إقناع الناخبين بقانون "الستّين" بعد "شيطتنه"، وسيجد صُعوبة أكبر في إنجاح كتلة نيابيّة وازنة قادرة على تأمين ما لا يقلّ عن ثلث عدد أعضاء المجلس.

الخيار الثالث: رفض "التيّار الوطني" الإنصياع لضغط المهل القانونيّة والدُستوريّة ولإبتزاز الحلفاء السابقين قبل الخُصوم، وبالتالي عدم الذهاب إلى الإنتخابات وفق قانون النسبيّة طالما لم يتمّ الأخذ بالضمانات التي يُطالب بها، وعدم الذهاب إلى الإنتخابات أيضًا وفق "قانون الستّين" بحكم الأمر الواقع. وهذا الموقف سيُمثّل بالتأكيد إلتزامًا حاسمًا من قبل "التيار" بمواقفه السابقة العالية السقف، لكنّه سيضع في المُقابل البلاد أمام مُفترق طرق مليء بالمخاطر يبدأ بإحتمال التمديد للمجلس لمرّة ثالثة ولفترة زمنيّة لا تقلّ عن عام واحد، ولا تنتهي عند الدُخول في جدل سياسي ودُستوري بشأن كل من "الفراغ" على مُستوى السُلطة التشريعيّة، وما إذا كانت سُلطات المجلس النيابي تنتقل إلى مجلس الوزراء، ومدى إنطباق المادة 25 من الدُستورعلى وضعيّة إنتهاء ولاية المجلس، هذا من دون الحديث عن إحتمال حُصول إستقالة جَماعيّة لعدد وازن من الوزراء من الحُكومة بشكل يُعرّض الميثاقيّة للخطر، وإحتمال المُطالبة بإجراء الإنتخابات النيابية وفق القانون النافذ في غضون ثلاثة أشهر منعًا للفراغ.

في الخلاصة، لا يُحسد "التيار الوطني الحُرّ" على موقعه الحالي، بعد أن رفض العديد من الأحزاب الصغيرة والشخصيّات المسيحيّة مُجاراته في مطالبه الهادفة إلى تحرير صوت الناخب المسيحي، بسبب قُصر نظر بعضها وتمسّك بعضها الآخر بمكاسب سُلطويّة محدودة، الأمر الذي أضعف موقع "التيّار" التفاوضي، وكذلك بعد أن رفضت مُختلف القوى الحزبيّة والسياسيّة الإسلاميّة التخلّي عن أيّ من المكاسب التي نالتها بعد إنتهاء الحرب اللبنانيّة لغير صالح المسيحيّين، وبعد تطبيق "إتفاق الطائف" غير المُتوازن أصلاً بأسلوب مُلتو بين العامين 1990 و2005، بفعل نُفوذ الإحتلال السوري آنذاك، وهو النفوذ الذي أضعف الحُضور المسيحي على مُستوى السلطة أكثر فأكثر بسبب سجن وإضطهاد وإبعاد قيادات وناشطي الأحزاب المسيحيّة الفاعلة في تلك الفترة، والذي فرض زيادة عدد النوّاب من 108 نوّاب كما نصّ "إتفاق الطائف" إلى 128 نائبًا، ليزداد عدد النوّاب المسيحيّين الذين لا يُنتخبون بأصوات الناخبين المسيحيّين، والذي رسم وفرض قوانين إنتخابيّة وفق مصلحة الشخصيّات الحليفة له حصرًا.

فهل سيرضى "التيّار الوطني الحُرّ" ومن معه بأن لا يُسمح للناخبين المسيحيّين بإنتخاب أكثر من ثلث نوّابهم بأصواتهم من دون مِنّة من أحد بحسب "قانون الستّين"، أو بانتخاب أقل من ثلثي نوّابهم بأصواتهم الذاتيّة وفق قانون للنسبيّة الكاملة من دون ضمانات، أم أنّ "التيارّ" سيعمد إلى مُحاولة تكرار "سيناريو" مُشابه لما حصل في ملف رئاسة الجمهوريّة، لجهة فرض الفراغ إلى حين مُوافقة باقي الأطراف على مُلاقاته إلى حلول وسطيّة؟ ثلاثة خيارات صعبة أمام "الوطني الحُرّ"... أحلاها مرّ، علمًا أنّ "حزب الله" الذي دعم "التيار" في الملفّ الرئاسي غير مُستعد هذه المرّة لمجاراته في فرض الفراغ نيابيًا لتحقيق مطالبه!

(1) "إذا حلّ مجلس النواب وجب أن يشتمل قرار الحلّ على دعوة لإجراء إنتخابات جديدة، وهذه الإنتخابات تجري وفقًا للمادة 24 وتنتهي في مدّة لا تتجاوز الثلاثة أشهر".