نظريًا، انتهت قمّة الرياض التي شكّلت، بحسب بيانها الختاميّ، "منعطفاً تاريخياً في علاقة العالمين العربي والإسلامي مع الولايات المتحدة الأميركية". إلا أنّها عمليًا، قد تكون بدأت للتوّ، باعتبار أنّ تداعياتها لا شكّ كبيرة، على أكثر من صعيد ومستوى.

ولكن، ماذا عن ​لبنان​ وسط هذه المعمعة؟ أيّ تداعياتٍ لهذه القمّة على واقعه، هو الذي أتت مشاركته فيها شكليّة، لدواعي التقاط الصورة التذكاريّة، أو ربما رفع العتب، أو ما يسمّى بالإجماع العربيّ، غير المُجمَع عليه؟.

والأهمّ من ذلك، أين لبنان من النأي بالنفس، أو بالحدّ الأدنى، من البيان الوزاري وخطاب القسم؟ وهل يكفي قول وزير الخارجية ​جبران باسيل​ أنّه لم يكن على علمٍ بأنّ بياناً سيصدر عن القمّة لإنهاء كلّ الذيول المتوقّعة لما حصل؟!.

انقسامٌ طبيعيّ...

لا شكّ أنّ الانقسام اللبنانيّ حول مجريات القمّة الإسلامية الأميركية التي عقدت في الرياض هو الأمر الطبيعيّ والبديهيّ، بل إنّ الاستثناء كان ليحصل لو أنّ اللبنانيين اتّحدوا فيما بينهم على كلمةٍ واحدةٍ إزاء هذه القمّة، لجهة مقاربتها سواء إيجابًا أو سلبًا.

فبغضّ النظر عن البيان الختاميّ الذي صدر عن القمّة، والمداولات التي جرت على هامشها، فإنّ صورة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ في قاعةٍ واحدةٍ مع الملك السعودي ​سلمان بن عبد العزيز​ والرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​، كانت كافية لتشعر شريحة من اللبنانيّين بـ"الفخر"، وتغدق عبارات الثناء على القمّة، بل تذهب لحدّ تصنيفها بأنّها "قمّة القمم"، بوصفها "حدثاً كونياً" لا مثيل له على الإطلاق، وله ارتداداته على مجمل الوضع في المنطقة والعالم ككلّ.

وفي المقابل، ولأنّ هذه القمّة كانت تهدف، منذ الإعلان عنها، إلى التصويب على ​إيران​ شكلاً ومضمونًا، وخلطت في سبيل ذلك مفاهيم الإرهاب والمقاومة بأسلوبٍ ينطوي على خطورةٍ فائقةٍ، كان من الطبيعيّ أن تثير حفيظة شريحةٍ أخرى من اللبنانيين، اعتبرت أنّ الكثير من الدول العربيّة والإسلاميّة أضاعت البوصلة عن سابق تصوّرٍ وتصميم، والدليل على ذلك أنّها تناست قضيّتها المركزيّة، أي القضية الفلسطينية، وهذا من "لزوم" تقديم أوراق الاعتماد للأميركيين، ومن خلفهم الإسرائيليين، بشكلٍ أو بآخر.

ولعلّ استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترامب استقبال الفاتحين والأبطال في السعودية زاد هذه الشريحة شعورًا بالاستفزاز والامتعاض، خصوصًا أنّ ترامب أعلن منذ ما قبل وصوله إلى البيت الأبيض بشكلٍ غير مباشر الحرب على الإسلام والمسلمين، رافضًا تمييز المعتدلين عن التكفيريين فيما بينهم، من دون أن ننسى صداقته الحميمة لإسرائيل ورفضه المسّ بأمنها من قريبٍ أو بعيد، هي التي المفترض أنّ عداوتها للعرب لا تعلو عليها عداوة.

وانطلاقاً من ذلك، برز التوجّس من أن تشكّل هذه القمّة منعطفًا تاريخيًا، فعلاً وقولاً، ليس لجهة تشكيل تحالفٍ عربي إسلامي أميركي في مقابل إيران فحسب، خصوصًا بعدما ثبت أنّ الجانب الاقتصادي لا يزال يشكّل أولويّة الأولويّات بالنسبة لترامب، الذي يبقى رجل أعمالٍ من الطراز الأول، بل لجهة فتح الباب أمام التطبيع مع إسرائيل، الذي ستكون تداعياته وخيمة على المنطقة بأسرها بطبيعة الحال.

لبنان "مُحرَج"؟!

لكن، إذا كان الانقسام اللبناني في مقاربة القمّة الإسلاميّة الأميركيّة طبيعيًا، بالنظر إلى الانقسام اللبنانيّ بين محورَي السعودية وإيران، فإنّ الموقف اللبنانيّ في القمّة لم يكن في أحسن أحواله، لا على صعيد صورة لبنان في الإطار العربيّ المُشترك، التي بدت مهتزّة، ولا على صعيد انسجام السلطة السياسية الرسمية مع نفسها، ومع ثوابتها ومبادئها، هي التي لطالما رفعت شعار تحييد لبنان عن لعبة الأمم، فإذا بها في قلبها.

وفي هذا السياق، يُسجَّل أنّ التعامل مع لبنان الدولة لم يرقَ لمستوى قمّةٍ وُصِفت بالتاريخيّة والمفصليّة، خصوصًا بعد الخطأ "المقصود" الذي ارتُكِب حين تمّت دعوة رئيس الحكومة سعد الحريري بدل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، خلافاً للبروتوكول المعمول به، وهو ما لم تنجح كلّ التبريرات التي حاول المعنيّون اعتمادها في التقليل من وقعه، خصوصًا أنّ لبنان لطالما شارك في قممٍ إسلاميّة بشخص رئيس الجمهورية المسيحيّ، بل إنّ العرب كانوا يتغنّون بذلك باعتباره مصدر تنوّع وغنىً، وليس العكس من ذلك. وبعدما قيل الكثير عن كلمة لبنان في القمّة، وكيف نسّقها رئيس الحكومة سعد الحريري بالشاردة والواردة مع الرئيس ميشال عون، كما فعل الأخير خلال القمّة العربية، إذا بالمفاجأة بأن تنهي القمّة أعمالها قبل أن يلقي الحريري كلمته، في مفارقةٍ لا يبدو "ضيق الوقت" مبرّراً منطقيًا لها بطبيعة الحال.

أما قول وزير الخارجية جبران باسيل أنّه "لم يكن على علم" بأنّ بياناً ختاميًا سيصدر عن القمّة، فلم يكن موفّقاً هو الآخر، واستجلب "حملة مضادة" عليه، لم يقف وراءها فقط المندّدون بالقمّة والممتعضون من موقف لبنان فيها فحسب، بل انضمّ إليها الكثير من "خصوم" باسيل الشخصيّين الذين وجدوها فرصةً ربما للثأر والاقتصاص، باعتبار أنّ وزير الخارجية يجب أن يدرك أكثر من غيره بأنّ لا قمّة تنتهي من دون بيانٍ ختاميّ، فكيف إذا كانت تاريخية واستثنائية ومفصلية ومصيرية كما قيل عن قمّة الرياض، على مرأى ومسمع من باسيل نفسه.

عمومًا، يمكن القول أنّ الموقف اللبنانيّ كان "مُحرَجًا" بالاتّجاهَين، فعدم المشاركة في القمّة من أصلها كان من شأنه أن يضع لبنان في موقفٍ صعبٍ مع محيطه العربيّ، تمامًا كما أنّ التحفّظ على أيّ من بنودها، ولو ارتبط الأمر بالخصوصية اللبنانيّة، أكثر فداحةً من ذلك الذي أصابه بعد القمّة العربيّة ما قبل الأخيرة، والتي أدّت لتدهور العلاقات اللبنانية الخليجية، والتي لم ترتَّب بشكلٍ كاملٍ لغاية تاريخه، علمًا أنّ البعض ذهب لحدّ القول أنّ عدم تسمية "حزب الله" بالاسم في البيان الختاميّ أتى منعًا لـ"إحراج" لبنان، وإن كان المكتوب يُقرَأ من عنوانه.

ماذا بعد؟

قد يكون لبنان خرج من القمّة الإسلاميّة الأميركيّة بأقلّ الأضرار، كما ذهبت بعض التحليلات إلى القول، فوزير الخارجية لم يتحفّظ على شيءٍ بشكلٍ رسمي في الرياض، لكنّه تحفّظ على كلّ شيء، عندما أصبح على متن الطائرة، محاولاً بذلك ضرب أكثر من عصفور بحجرٍ واحدٍ.

وسواء كان اللبنانيون سيعتبرون ما حصل مادةً خلافيّة، أم سيحاولون احتواء الموضوع باعتبار أنّ الوقت غير ملائم لتوتيرٍ، والبلاد على حافة الدخول في المجهول فيما لو لم يتمّ الاتفاق على قانون انتخاب جديد، فإنّ السؤال يبقى: إذا قرّر اللبنانيون تحييد أنفسهم فعلاً، هل سيسمح اللاعبون الكبار بتحييدهم، فيما لو انزلقت الأمور إلى مواجهة إقليمية تبدو للأسف شبه حتميّة؟!.