ما قاله ديك تشيني في العام 2003 عن زرع الفوضى في المنطقة العربية يطبق حرفياً منذ احداث 11 ايلول 2001 والتي اعادت تشكيل مشهد السيطرة الاميركية على مقدرات المنطقة وجغرافيتها. وكذلك اعادة ترسيم الحدود بين الدول وتوزيع مناطق النفوذ بين الحلفاء وتصنيف الدول والحركات والاشخاص في معسكرين "الخيّرين" و"الاشرار". ما يجري في المنطقة اليوم ومنذ احداث الربيع العربي من مصر وتونس الى البحرين الى اليمن والسودان والعراق وسورية اخيراً هو مخطط له بإحكام ويمكن تلخيصه بكلمتين: الفوضى الخلاقة وهذه الفوضى تخدم الكيان الصهيوني وتجعله مرتاحاً ويتفرج. وفي احد مداخلاته قال تشيني وامام وفد عربي وخليجي ان الفوضى تنهك "قوى الارهاب" وتشتت اهدافها وهو كان يقصد حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق. فعندما تخلق جبهات متكررة وتخلق توترات عرقية واثنية ومذهبية تضع الجميع من المتحاربين امام خيار الاستنزاف الطويل بلا افق للحل. لا هزيمة ولا انتصار بل مزيد من الخسائر والدماء والمعارك. خلاصة الاجتماع الذي جرى منذ ايام في الرياض هو ان الاميركي عاد عبر دونالد ترامب الموظف الجديد للوبي الصهيوني في البيت الابيض الى سيناريو العام 2001 وهو تقسيم المنطقة بين الاخيار والاشرار بين السنة ومعسكرهم الذي يقوده ترامب بـ400 مليار دولار من الخردة والسلاح لابقاء الحرب المذهبية مشتعلة مع المعسكر الشيعي الذي تقوده ايران ومن ورائها الاتحاد السوفياتي المنبعث عبر فلاديمير بوتين من جديد. فإذن الحرب الباردة بين روسيا واميركا عادت هذه المرة بترسانة جديدة من السلاح. سلام اميركي بيد الخليجيين ولكن باموالهم وسلاح روسي نوعي يستعمله الروسي بنفسه على الارض السورية ومعه حلفاؤه ايران والنظام السوري وحزب الله والفصائل العراقية او الحشد الشعبي. هي معركة متعددة الابعاد والزوايا قوامها الصراع المذهبي السني والشيعي وهي حرب لا طائل منها للطرفين وستستمر على ارض سورية والعراق واليمن والبحرين وغيرها.

في لبنان هناك من لا يتعظ مما يجري من حروب هدفها الاساس تشتيت الانظار عن الاطماع الاميركية في المنطقة وحروبها بـ"حلة" جديدة حاربوهم بمالهم وسلاحهم ورجالهم واقطفوا انتم الثمار. وإبقاء الحرب في سورية لاعوام اضافية يعني مزيدًا من تصفية القضية الفلسطينية والسطو على فلسطين كلها من البحر الى النهر باستثناء غزة المحاصرة والمنهكة. اما في سورية فتذوب كل الاطراف كالشمعة الى ان ترفع راية الاستسلام للاجندات الاميركية والصهيونية والا فالموت هو الحل.

وفي لبنان ثمة من يراهن بعد مجيء ترامب على "هدنة" مع الاميركيين وقوامها محاصرة حزب الله والثنائي الشيعي من المصارف الى الحركة التجارية ورجال الاعمال الى حصار المؤسسات التربوية والسياسية والاجتماعية والاستشفائية والخيرية وفي السلطة دفعهم الى الخيارات المرة فالفراغ.

فماذا يعني الفراغ في السلطة الثانية يعني عملياً ضرب المناصفة بإخراج جزء اساسي اسلامي من السلطة وهو الطائفة الشيعية. فإذا تم هذا الامر فلا يعني ان هناك رئاسة جمهورية ولا هناك حكومة. ومن يخطط لسيناريو مشابه يعتقد انه يلوي ذراع نبيه بري وحسن نصرالله ومعهما حلفاؤهما سليمان فرنجية وطلال ارسلان وباقي احزاب 8 آذار من القوى السنية والمسيحية والدرزية. لكنه لا يعرف ان لي الاذرع لغة لا تمشي ولا افق لها لا امس ولا اليوم ولا غداً.

الرهان على اي متغير في المنطقة او حصار لايران او حزب الله والنظام السوري لا يصرف ولا يقرّش في لعبة السلطة اللبنانية القائمة بميزان الذهب على التوازنات الدقيقة فلا طائفة تستقوي على أخرى ولا رئيس او رئيس حزب او زعيم طائفة او مرجع ديني يمكنه هو وطائفته ان يفرضوا ارادتهم ورغباتهم على الآخرين بالتهويل او بالاكراه او بالابتزاز فالسلطة وتوازناتها مرسومة بدقة في الميثاق واثبتت التجارب السابقة ان لا حرب او اي سيناريو تقسيمي او تهويلي او تغيير في الميثاق او الدستور يمكنه ان يجري تغييراً على زغل او يغبن طرفًا او طائفة من دون اخرى. فلا ديك تشيني لبناني يخاف منه اللبنانيون او ترامب المجنون الذي يصرخ للحرب ولا يحارب ولا سلاح سيكون خردة في يد صاحبه بمليارات الدولارات يمكنه ان يغير بمقدار شعرة المعادلة اللبنانية لا غالب ولا مغلوب واذا اردتم الحلول واستمرار الدولة والسلطة فلا مناص لكم سوى الحوار والتفاهم وما دون ذلك "لا تعذبوا حالكن".