إذا كان صحيحًا أنّ العديد من الدُول الكُبرى حريصة على إستقرار لبنان أمنيًا، وعلى عدم إنزلاقه إلى مُستنقع الحروب الدَمويّة المُتنقّلة في الشرق الأوسط، فالأصحّ أنّ لبنان مُرشّح لأن يدفع الفاتورة الأكبر من إستقراره الداخلي في المُستقبل القريب والمُتوسّط، كونه غير قادر على تحمّل تبعات قرار تسعير المُواجهة الإقليميّة الشرسة القائمة في لبنان، بين محور تقوده إيران ومحور آخر تقوده المملكة العربيّة السعوديّة، مع كل التشعّبات والإمتدادات الدَولية لهذين المحورين.

ففي تقييم أوّلي وسريع لنتائج الزيارة التاريخيّة للرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ إلى الشرق الأوسط، يُمكن الخروج بالخلاصات التالية:

أوّلاً: الحديث عن "حلّ الدولتين" بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين لا يتجاوز الضجّة الإعلاميّة التي تفتقر إلى أسس قويّة على الأرض تسمح بالخروج من دوّامة الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني المُستمر منذ نحو 70 عامًا، حيث أنّه وبحسب مُحلّلين غربيّين لا أمل بالتوصّل إلى تسوية شاملة للقضيّة الفلسطينيّة في المُستقبل القريب، حتى لو جرى العودة إلى طاولة المُفاوضات بشكل أو بآخر، وذلك بسبب تراجع هذا الملفّ إلى مرتبة متأخّرة ضمن إهتمامات الدول الإقليميّة والدَولية على حدّ سواء، وكذلك نتيجة التعايش مع الوضع القائم حاليًا من قبل مُختلف الأطراف المحلّية المعنيّة، إضافة إلى عدم إمكان فرض إتفاق سلام أميركي بشكل أحادي في ظلّ التوازنات الإقليمية والدَوليّة الحاليّة.

ثانيًا: الحديث عن إنشاء قوّة عسكريّة عربيّة-إسلاميّة تتكون من 34 ألف عسكري إحتياطي، لمُواجهة الإرهاب، لا يعدو كونه إجراء شكليًا لا يُغيّر في التوازنات العسكريّة القائمة، علمًا أنّ النجاح في تطبيقه دونه عقبات عدّة تتمثّل في تضارب مصالح الدول العربيّة والإسلاميّة المعنيّة بتشكيل هذه القوّة، وفي إختلاف أولويّاتها وأهدافها الأمنيّة والسياسيّة، إلخ.

ثالثًا: بغضّ النظر عمّا طال الإتفاقات التي وُقّعت بين الجانبين الأميركي والسعودي من إنتقادات، بسبب ضخامة قيمتها المالية والأسباب الكامنة وراءها، فإنّ الأكيد أنّ صفحة جديدة من التعاون الإستراتيجي بين الطرفين قد فُتحت، وهي ستسمح بعودة قويّة للإدارة الأميركيّة إلى منطقة الشرق الأوسط، وبعودة قويّة للدور الأميركي الأساسي في صراعات هذه المنطقة أيضًا. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ هذه الإتفاقات هي طويلة الأمد، ومُحصّنة داخليًا بفضل الدعم الأمني والعسكري الذي ستناله السعودية في مُقابل الإفادة المالية والإقتصاديّة والسياسيّة التي ستحصل عليها أميركا.

رابعًا: سعي الإدارة الأميركية الجديدة لإعادة تنشيط محور المُواجهة مع إيران لم يعد مُجرّد كلام سياسي أو إعلامي أو إنتخابي، بل إنتقل إلى مرحلة التنفيذ الميداني الجدّي، في الوقت الذي تقوم فيه إيران بمُواصلة نفس السياسة الإستراتيجيّة التي إتبعتها منذ نجاح "الثورة الإسلاميّة" في العام 1979، لجهة العمل على توسيع نُفوذها السياسي الإقليمي بالتزامن مع توسيع أذرعها الأمنيّة إلى كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها من الدول، سعيًا لتحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجيّة والعقائديّة. وهذا الحزم المُتبادل بين "المحور الإيراني" ومن خلفه ومن معه من جهة، و"المحور السعودي" ومن خلفه ومن معه من جهة ثانية، يعني تصعيدًا مُتوقّعًا لحدّة الصراع المفتوح بين الطرفين، والذي يأخذ أشكالاً مختلفة تبعًا للبلد المعني، حيث يكون سياسيًا في بعض الأماكن وعسكريًا في أماكن أخرى.

خامسًا: بالنسبة إلى لبنان، فإنّ الإنقسام الداخلي على مُستوى التموضعات والتحالفات الإقليميّة والدَوليّة لا يُمكن إلا أن يُشكّل مادة خصبة للإستغلال الخارجي، بدرجات مُتفاوتة تخفّ حينًا وتشتدّ حينًا آخر تبعًا لضرورات المُواجهة. ولا شكّ أنّ القرار بتسليط الضوء على "حزب الله" بشكل سلبي، من قبل الإدارة الأميركيّة على المُستوى الدَولي، ومن قبل السعودية على المُستوى الإقليمي، مع كل ما يترافق هذا الأمر من ضُغوط سياسيّة وإقتصادية وماليّة وربّما أمنيّة في المُستقبل، سيزيد من هشاشة الوضع اللبناني الداخلي وسيُعرّض الإستقرار السياسي لإنتكاسات شبيهة بتلك التي حصلت بين العام 2005 والعام 2014، أي قبل توصّل كل من "حزب الله" و"تيّار المُستقبل"-بغطاء إقليمي واضح، إلى تسوية قضت بتقاسم النُفوذ وبتنظيم الخلاف، حرصًا على أمن لبنان وإستقراره. وبالتالي، ما لم تتمّ المُسارعة إلى تنظيم إنتخابات نيابيّة جديدة، وبالتالي إعادة تحديد توازنات السُلطة القائمة، وإعادة كتابة تفاهمات سياسيّة عريضة، فإنّ الأمور ستكون مفتوحة على كل أنواع الإهتزازات غير المُطمئنة. وهذه الإهتزازات، يُمكن أن تأخذ أشكالاً عدّة تتراوح بين رفع الضُغوط الإقليميّة والدَوليّة على "حزب الله" في محاولة لتحجيمه، وقيام المحور الداعم للحزب بخطوات تصعيديّة إستباقيّة منعًا لتطويقه. وعمليّات "شدّ الحبال" المُتبادلة ستؤثّر بدون أدنى شكّ على الإستقرار السياسي والإقتصادي في لبنان، وسترفع من حدّة الإحتقان الداخلي ومن مُستوى الإنقسام الشعبي، وستعيد التراشق السياسي والإعلامي الداخلي إلى مرحلة سوداء سابقة، هذا إن لم تُقرّر الدول الكبرى أنّ الوقت حان لهز الإستقرار الأمني أيضًا!

في الختام، لا شكّ أنّ الصراع الإيراني-السعودي ليس بجديد، لا بأسبابه السياسيّة أو المذهبيّة أو العقائديّة أو الإقتصاديّة أو المُرتبطة بالنفوذ الإقليمي، إلخ. لكن من شأن "صبّ الزيت على النار" من جديد، بعد تجاوز مرحلة الإنكفاء الأميركي عن المنطقة والمُغالاة في مُسايرة إيران خلال عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وبعد قرار الإدارة الأميركيّة الجديدة برئاسة ترامب العودة إلى المنطقة بقوّة لمُواجهة تصاعد النفوذ الإيراني والروسي في السنوات الماضية، أن يُعرّض إستقرار دول المنطقة كافة لمخاطر جديدة، وكلّما كانت أسس الدول المعنيّة ضعيفة-كما هي حال لبنان مثلاً، كلّما كانت المخاطر على الإستقرار أكبر.